مسيحيو المشرق.. تحديات ورهانات
يبدو من الصعوبة بمكان فصل ما حدث للمسيحيين في شمال سيناء على يد داعش بداية الشهر الماضي من قتل وتنكيل وتهجير، عما يحدث في عموم الإقليم من مخطط الفوضى والتفتيت التي شرعت به الدوائر الغربية والصهيونية في سوريا والعراق، وتنفذه أدواتها في الميدان من جماعات تكفيرية إرهابية وأنظمة رجعية وأجنداتها الإجرامية المعلنة بتصفية ما تسميه “الأقليات” في إطار سعيها المشبوه لإقامة “دولة الخلافة”.
وقد مهدت لذلك جماعات إسلامية ذات فكر إقصائي عبر استهداف متواصل لمسيحيي المشرق وتحريضها عليهم في محاولات مغرضة لإقصائهم مجتمعياً.
تكتسب مصر، لأهميتها المركزية خصوصية في هذا المجال، حيث يشكل الأقباط حوالي 10% من مجموع السكان، وقد تعرض هذا العنصر الأساسي من النسيج الاجتماعي بعد رحيل عبد الناصر إلى حالة من الاستهداف في عهد السادات واستعانته بالإخوان لمواجهة القوميين واليساريين وصولاً لتسلم محمد مرسي مقاليد الحكم وبسط سيطرة الاخوان على كل مفاصل الدولة.
لقد شهدت الأعوام 2012 – 2013 وما بعدها عدداً كبيراً من الاعتداءات العنفية ضد عدد من الكنائس في القاهرة والاسكندرية والصعيد، كما جرت محاولات محمومة للإيقاع بين المسلمين والمسيحيين على خلفيات الكراهية الطائفية.
أمل المسيحيون بانفراجة ما بعد وصول السيسي إلى السلطة، إلا أن النظام لم يعمل بكفاءة لتخفيف التوتر بالسرعة الكافية ولم ينقل البلاد إلى حالة من الحريات ولم ينطلق بشكل صحيح نحو تنمية اقتصادية وعدالة اجتماعية مستحقة.
ندرك بأنه لا يمكننا التحدث عن مسيحيي المشرق كوحدة اجتماعية سياسية معزولة، فهم يشكلون مكونا أصيلاً من النسيج الاجتماعي في المنطقة، ولكننا نقارب هذا المصطلح لأغراض بحثية، سيما وأن هذا المكون بالإضافة لكونه يعاني مثل الجميع من مفاسد الأنظمة والتسلط الاستبدادي وتبعات المشروع الإمبريالي الصهيوني، إلا أنه يعاني أيضاً بشكل أكثر حدة من الخطر الداعشي والأصولي في كل الإقليم، وسط حالة من عجز وتقاعس الأنظمة في حماية مواطنيها.
مسيحيوا المشرق العربي هم أصل المسيحية في العالم، وعلى صلة مباشرة مع المسيح والقدس. لم يوجدوا بسبب المبشرين، وليسوا وليداً للثقافة اللاتينية أو اليونانية، بل هم من حملوا الإنجيل ونشروه في العالم، وبقوا متمسكين بالأرض، وحافظوا على الثقافة السامية ورسالة المسيح، ولهذا يتم استهدافهم.
لا يمكن الحديث عن المسيحيين كأقلية، هم عرب في الهوية الجامعة للأمة، وعملوا دوماً مع المخلصين في أوطانهم من أجل الاستقلال وتعميم الحريات الأساسية وحقوق الإنسان والحداثة وبناء الديموقراطية.
خلال فترة ما يسمى بالربيع العربي، وانتشار الفوضى، أخذ البعض على المسيحيين ترددهم وعدم التحاقهم بشكل صريح في حركة الشارع، للوقوف في وجه الأنظمة الموسومة بالفساد واحتكار السلطة، ولكن في الواقع فإن هذه الانظمة كانت توفر نوعاً من الأمن المجتمعي والاستقرار النسبي لمجموع مكونات المجتمع. وللموضوعية، لم يُظهر المسيحيون حباً غامراً لهذه الأنظمة، في وقت لم يكن هناك بدائل مطروحة لأنظمة الأصول العسكرية، غير الأنظمة الأصولية التكفيرية؟
يقدر إجمالي عدد المسيحيين في الوطن العربي بحوالي عشرين مليون بين 320 مليون من المسلمين، في مناخ تتصاعد فيه الأصولية في كل مكان، وقد جاء انتخاب ترامب ومواقفه العنصرية ليزيد من تعقيد الأمور، وما زلنا نتذكر رعونة بوش وحروبه الصليبية أثناء غزوه للعراق!
تخطئ الدول الغربية بإعلان نفسها حامية للمسيحيين. في لبنان مثلاً، هذه المواقف مسيئة بقدر ما هي مرفوضة من المسيحيين وغيرهم، حيث يفضل الحديث عن شراكة ثقافية وليس حماية، ويؤكد مسيحيو المشرق بأنهم ليسوا رعايا لأحد ولا يطالبون بحماية طائفية، بل بممارسة حقوقهم وأنشطتهم وواجباتهم على أرضهم وبين شعوبهم، في إطار من المواطنة الحقة.
التحدي المُلّح حالياً هو التصدي لمؤامرة تهجير المسيحيين من المنطقة، واستعراض الأرقام يكشف لنا مدى خطورة هذا الاستهداف، وعلى سبيل المثال فقد هاجر وهُجر نصف مليون مسيحي سوري وفي العراق الذي قارب فيه عدد المسيحيين قبل الاحتلال الأمريكي مليون وثلاثمائة ألف، أصبحوا الآن ربع مليون، ومن لبنان هاجر حوالي 700 ألف مسيحي خلال عقدين، والوضع في فلسطين أكثر قسوة، وهنا يجب فضح النهج التسطيحي الهروبي الذي يطالب بإخراج المسيحيين من المنطقة. سيما وأننا لا نلمس بينهم أثراً لخطاب ثأري أو كراهية، بل نشهد على ارتفاع في منسوب وعيهم ووطنيتهم وقدرة كبيرة على الصمود لإفشال المخطط المغرض.
التنوع والثراء الثقافي الحضاري في منطقتنا يعتبر سمة فريدة، والسبب من وراء استهداف كل أجندة وثقافة رجعية واستعمارية، ومن يتعرض للمكون المسيحي، يسعى لشطب الهوية القومية العربية الجامعة لشعوب المنطقة منذ مئات السنين، والانكفاء للهويات الفرعية الطائفية والمذهبية والعرقية وخلق كيانات أقليات هجينة منطوية ومتصارعة.
مصير المسيحيين مزروع بمستقبل المنطقة، وقضيتهم هي قضية وطنية وقومية عامة، كما هي قضية مواطنة وتكريس مبادئ الحريات والمساواة والعدالة والشراكة، والتصدي للمشروع الإمبريالي الصهيوني، والانطلاق بالمشروع النهضوي الوحدوي العربي.