مستقبل الأطباء المقيمين في الصحة .. بين تنكر الوزارة وتلكؤ النقابة
قضية الأطباء الذين يستنكفون عن توقيع عقودهم مع وزارة الصحة تستحق منا منحها أهمية مهنية ووطنية خاصة، سيما وأن الوزارة قد سارعت إلى وضع المسألة برمتها في إطار «رؤيتها» على المدى البعيد، وتطلعها لسد العجز المتفاقم بالاختصاصيين في مستشفيات الوزارة، بعد أن عمدت إلى اللجوء إلى حلول ترقيعية على المدى القصير وذلك عن طريق شراء خدمات 100 طبيب من بعض الجامعات والقطاع الخاص.
ولكن في المقابل، فإن الموقف الاحتجاجي للأطباء المعنيين برفض التوقيع على العقود بصيغتها المطروحة، يحمل كثيرا من الوجاهة والموضوعية، فالعقود المستجدة ظالمة وصعبة التنفيذ، وتقيد الطبيب الشاب وأسرته بمجموعة من الشروط، تكبلهم بشكل من عقود الاذعان لمدة عقدين من عمره، كما أن من شأن فرضها بالقوة، حرمان وزارة الصحة عمليا من سد حاجتها الماسة في تعويض النقص والنزف الحاصل في معظم التخصصات الطبية.
شروط تعجيزية وبيئة طاردة!
باعتراف معظم الأطراف بما فيها اللجنة الصحية لمجلس النواب، ومجلس نقابة الأطباء، ووزير الصحة مؤخرا؛ فإن مجموعة الشروط المفروضة في العقود، تعتبر غاية في التعجيز والتقييد، وبرأي مختصين حقوقيين وحريات، فهي عقود غير دستورية، وغير قانونية، وتتعارض مع الحقوق المدنية وقانون العمل الأردني.
بإطلالة سريعة على بعض البنود، نلحظ بأن العقد يفرض على الطبيب الالتزام بالعمل في وزارة الصحة لمدة تبلغ ثلاثة أضعاف فترة تدريبه، وتشترط عليه تقديم كفالة عدلية بضمانات عقارية تصل قيمتها إلى 90 ألف دينار، وتنذر بغرامات مالية تصل إلى مبلغ خمسة آلاف دينار تدفع كاملة عن كل سنة أو أجزاء من السنة، مع إرجاع كامل النفقات، وذلك في حالات الفصل من التدريب أو الانسحاب الطوعي أو فقدان الوظيفة أو الاستغناء عن الخدمات، كما أن المقيم لا يُمنح شهادة مزاولة المهنة إلا بعد إتمام مدة التزامه الزمنية كاملةَ!
أمام هذه المغالاة الظالمة، بدت مطالب الأطباء المقيمين معقولة وملحة، حيث وافقوا من حيث المبدأ على فكرة توقيع العقد، ولكنهم طالبوا بالتخفيف من القيود والغرامات المالية، ورفضوا بالكامل شرط حجز شهادة مزاولة المهنة لمخالفته للقانون والحقوق المدنية.
رغم الوعود المتواترة التي قدمت للأطباء المعنيين، إلا أن كلا من النقابة أو الوزارة لم يلتزم بالتنفيذ، وبالمقابل فقد علت أصوات تريد أن تحمل «المقيمين» مسؤولية الخراب المتراكم في وزارة الصحة منذ عقود، وتريد معاقبتهم بأثر رجعي عن ذنب لم يرتكبوه رغم إدراك الجميع بأن الوزارة نفسها لم تحافظ على أبنائها، ولم تقدم لهم ما يجعلهم متمسكين في مكان عملهم، ولم تفعل الوزارة شيئاً لكي تكون مؤسسة جاذبة. لم تعمل على تنمية البنى التحتية ولا في الموارد البشرية ولا الإدارية، وأن التسرب قد تم بالتواطؤ مع سياسات الحكومة، وسعيها للخصخصة التدريجية للقطاع الصحي، حتى أن هذا النزف لم يتوقف على الأطباء فحسب، بل شمل جميع العاملين في قطاع الصحة من فنيين وممرضين ومهن طبية مساعدة.
جوهر المشكلة يكمن في المنظومة الصحية المتهالكة
ندرك بأن هذه المسؤولية لا يتحملها وزير بعينه، بل جاءت نتيجة تراكم يدفع ثمنه الطبيب والمريض والوضع الصحي بشكل عام، حيث تشير الاحصاءات بأن الوزارة قامت بتدريب حوالي 2600 طبيب بمختلف الاختصاصات، بقي حاليا أقل من ربعهم في الوزارة، يمارسون عملهم في ظل ظروف قاهرة، ورواتب متدنية.
قضية «العقود» كشفت قصور مجلس النقابة، وافتقاره لرؤية شمولية في مقاربة الملف الصحي والسياسة الوطنية الصحية بشكل عام؛ فغلبت عليه ذهنية المهادنة، والمساومة على القطعة وانتظار أعطيات الوزير.
وفي ظل أجواء التجاذبات داخل المجلس نفسه، توجه النقيب إلى الانفراد بالتعاطي مع هذا الملف أسوة بتعامله مع الملفات الأخرى، مع تعمد التقليل من أهمية هذه القضية، بينما استبعد الاطباء أصحاب الشأن من المشاركة في حل قضيتهم، وتركهم يقلعون أشواكهم بأيديهم العارية.
لتغطية تقصير الوزارة والنقابة على السواء، انطلقت حملة تحريض إعلامية ظالمة ضد أصحاب الحقوق، اشتعلت على منصات التواصل الاجتماعي وبعض الصحف شبه الرسمية؛ تجرم الإحتجاج السلمي، وتشكك بوطنية المحتجين، وتدعي وجود أجندات خارجية، وتجتزئ مطالبهم بـ «التهرب من الخدمة في مشافي وزارة الصحة بعد التخرج».
التحدي أمام أطبائنا الشباب حديثي التخرج صعب، كما أن الفرص المتاحة أمامهم للارتقاء بمستواهم العلمي والمهني في حقل التخصص تكاد تكون محدودة.
خيارات صعبة، ولا مكان لأبناء الفقراء
إن تكلمنا عن خيار الخارج، سنجد بأن تكلفته عالية جداً، علاوة على اشتراطاته المعقدة، منها إضاعة سنة على الأقل لتعلم اللغة في العديد من الدول، مع محدودية التخصصات المتاحة، وغلاء المعيشة في معظم الدول الرأسمالية.
أما في داخل الوطن، فإن الطبيب حديث التخرج يُواجَه بأنظمة إقامة متغيرة ومتعددة الشروط والظروف؛ ففي الخدمات الطبية، يجد الطبيب نفسه أمام نظامين مختلفين، أحدهما يخضع للالتزام العسكري، وله مواصفاته واشتراطاته، والآخر مساق مدني.. لا يكتفي بعدم دفع بدل العمل للمقيم، وإنما يرتب على المقيم دفع اشتراكات شهرية لبدل الاقامة تبلغ 200 دينار شهريا، وقد تصل إلى 12 ألف دينار لفترة الاقامة في حالة النجاح الدائم، وهذه مبالغ كبيرة لا تقوى عليها معظم الأسر.
وعن التخصص والاقامة في الجامعة الأردنية، فهناك محدودية في اختيار التخصص المرغوب، كما أن الجامعة لا تقدم إلا بدل متواضع، مقابل ضغط هائل في العمل، وبيئة يطغى عليها علاقات بينية بعيدة عن روح الزمالة، مع تغليب روح التنافس الفردي المُضني، بعيدا عن ضرورات العمل الجماعي وروح الفريق.
من يتجه لنظام الإقامة والتخصص في المستشفيات الخاصة، سيفاجأ بوجود أنظمة متفاوتة بين مستشفى وآخر تتراوح بين «غير المدفوع»، إلى الراتب المتدني، مع شيوع أجواء الاستغلال والاستفراد بالمقيم، وتجريم حقوق الاحتجاج أو المطالبة بالحقوق.
أمام هذه الصورة الشائكة، يجد الطبيب حديث التخرج نفسه مندفعًا إلى خيار الإقامة والتخصص في وزارة الصحة، ولكن هذا العام، اصطدم الاطباء بنماذج جديدة من العقود التعجيزية، كل ذلك مع غياب الحد الأدنى من الشروط التعليمية والتدريبية المناسبة، تتمثل بعدم وجود كادر تعليمي كاف وكفؤ، وغياب برنامج أكاديمي محدد، وعدم توفر المعايير العلمية والبروتوكولات العملية، مع نقص كبير في تنوع التخصصات المرغوبة، وسط أجواء من التحكم المزاجي الشخصي في التوزيع والتكليف والمناقلات والتعيينات، وفوق ذلك، غالبا ما يتخرج المقيم ليحمل لقب طبيب مؤهل أو مساعد اختصاصي بانتظار أن تتفتق عبقرية أحدهم بالتوصل لمنح اللقب المناسب.
إدارة فاشلة لملف حيوي
ورغم أن الموضوع يتعلق بجوهر العملية الطبية، في قضية تعني 1600 طبيب، بمعدل 500 طبيب سنوياً، إلا أننا نلحظ غياب أي دور ايجابي للمجلس الطبي الاردني، وتقصيره عن القيام بواجباته تجاه توحيد معايير أنظمة التخصص وبرامج الاقامة، وتوحيد أسس العملية التعليمية، وتحقيق العدالة في معاييرها.
أمام الموقف التسويفي المماطل لوزارة الصحة، بدأ الاطباء الشباب حركتهم المستقلة الواعية قبل أسابيع.. أطباء من مختلف المشارب والتوجهات، جمع بينهم الإيمان بعدالة قضيتهم، وقوة إرادتهم في المطالبة بحقوقهم. توجهوا إلى الجميع لإنصافهم، فطرقوا باب النقابة أولاً، قبل أن يواجهوا بالصد والإنكار، بينما واصلت الوزارة سياسة المماطلة والتهديد ومحاولة شق وحدة الحركة، وتأليب المجتمع على الأطباء، وتحريض قطاعات طبية على أخرى، مع استمرار وجود الظروف المولدة لبيئة العمل الطاردة، بدوام يزيد عن 80 ساعة اسبوعياً، بين مناوبات وسهر وطوابير من المراجعين وقلق نفسي وتهديد بالاعتداءات اللفظية والجسدة، دون توفير الحد الأدنى من المرافق الصحية اللائقة، أو الحد المقبول من المتطلبات الحياتية الضرورية من مأكل ومنامة.
نحن لا نحصر سبب المشكلة هنا بأشخاص بعينهم، ولكن في إطار واقع منظومة متكاملة أصابها الفشل والاهتراء. تتجاوز شخص الوزير والنقيب إلى القصور في الفهم النقابي والحكومي للسياسات الاجتماعية الاقتصادية والتي تنحو إلى انسحاب الدولة التدريجي من مسؤولياتها تجاه خدمة المواطن في قطاعي الصحة والتعليم، وتركه فريسة لاقتصاد السوق والاحتكار، والتنكر للحقوق والحاجات الاساسية.
ونحن نعرف بأنه في دول عربية لا تعيش اقتصادا أفضل من اقتصادنا، يتم توفير التعليم المدرسي والجامعي فيها مجاناً، انطلاقا من أن هذه الخدمة هي من واجبات الدولة تجاه المواطنين، مع التأكيد على أن ما تعانيه مؤسساتنا من ضائقة مالية هو جراء سوء الادارة وضعف الدعم الحكومي للقطاعات الخدمية، وعدم الكفاءة في ضبط الانفاق، وليس شحا في الموارد فقط .
الأطباء الشباب يأخذون مستقبلهم بأيديهم، والمطلوب التضامن معهم، والوقوف إلى جانبهم.
تحت كل هذه الظروف ، يعي الأطباء الشباب حقيقة عدالة قضيتهم ويعملون على تنظيم صفوفهم وتوحيدها لرد المظلومية، ويعلنون بأنهم لن يسمحوا بإضاعة عامهم الدراسي وفرصتهم بالتخصص، وعلى النقابة أن تغادر مواقعها الرمادية ومواقفها الاستعراضية وأن تقف بجرأة ووضوح إلى جانب أعضائها، وأن تقوم بدورها الاعلامي لنصرة قضيتهم مع وضع مقدرات النقابة وطاقات اعضائها لتشكيل مظلة داعمة وأداة ضغط لتمكينهم من نيل حقوقهم وتحقيق مطالبهم.
إنها قضية نقابية حيوية ولكنها أيضاً قضية رأي عام وحريات، وقضية وطنية عادلة بامتياز.