ما وراء الحدث.. قانون الانتخاب الجديد.. هل الحكومة جادة في نوايا الإصلاح الديمقراطي؟
منذ ما يقرب من ربع قرن، صادرت الحكومات المتعاقبة حق الشعب الأردني في إنجاز سياسي ذي مغزى، وتجاوزت إرادة الشعب بالإصلاح في أكثر من محطة مفصلية للحياة السياسية، أما الحكومة الحالية وبعد أن ماطلت لما يقارب الثلاث سنوات في تقديم مشروع جدي لقانون انتخاب متقدم، تخرج علينا اليوم بمشروعها هذا دون أن تمهد له بأي جلسات نقاش أو حوار وطني ضروري وجاد.
من الطبيعي أن تفرض الدولة إرادتها من خلال قوانين، ولكن هذه بدورها لا تأتي من فراغ، وإنما يجب أن تأتي تعبيراً إيجابياً عن مطالب ورغبات قائمة بالفعل وتتوقف مدى صلاحية القوانين على درجة استجابتها لحاجات وإرادة المجتمع.
المنهج الديمقراطي يفترض وجود أسس ومبادئ تتطلب الاتفاق على المسائل العامة بعد المشاورات والحوار، وأن القرارات المحورية التي تتخذها الدولة الديمقراطية هي محصلة الحوار الهادف الذي ينشأ بين قوى وأطراف لديهم الخبرة والرؤية والقدرة على وزن المسائل.
وأي عملية انتخابية هي في الأساس اشتباك سياسي أو حوار وطني ساخن تحدد من خلاله القوى والتشكيلات الاجتماعية أولوياتها وتبلور توجهاتها، وتعكس موازين قواها ونفوذها على الأرض، وهكذا تتلخص أهداف الحوار الوطني في موضوعة مسودة قانون الانتخاب في تلقي الجمهور وقواه المنظمة القانون، ثم يعيدون صياغته ومقاربته وفق رؤاهم ومصالحهم الطبقية.
وفي المفاصل الهامة، وخلال السعي للتفاهمات الوطنية الكبرى، يجب أن لا يُسمح لأي جماعة ضاغطة أو ذات قوة غاشمة أن تمارس أي ضغط أو تأثير على الدولة أو تحسم التوجهات العامة، بما فيها السلطة التنفيذية ذاتها. الديمقراطية ليست ببساطة مسألة أغلبية عددية فحسب، وإنما هي طريقة في التفكير، وفي تناول الأمور من خلال مناقشات حرة مفتوحة.
يستند الحكم الديمقراطي بالضرورة بداية على وجود برلمان منتخب بواسطة الشعب، سواء كان البرلمان مكوناً من مجلس واحد أو مجلسين، ويكون للبرلمان اختصاصات تشريعية ورقابية على السلطة التنفيذية.
ومن الضروري أن يمثل البرلمان الأمة بأسرها، فالنائب لا يمثل دائرته الانتخابية وحدها، بل يضع لنفسه هدفاً أساسياً هو الصالح العام للدولة، حتى وإن تعارض ذلك مع مصالح دائرته، والنواب ليسوا وسطاء أو وكلاء عن ناخبيهم، وإنما هم ممثلون شرعيون.
الديمقراطية والحالة هذه، ليست مجرد مؤسسات، بل هي ثقافة وتحولات جذرية في بُنية المجتمع، تؤهله لاستيعاب مضامينها في جوهرها الأساسي بضمان تداول السلطة واحترام إرادة الشعب وفق قواعد الدستور.
النظام الأكثر شيوعاً حالياً والأكثر ملاءمة بالنسبة للمجتمعات، هو الديمقراطية النيابية التي ينتخب فيها المواطنون ممثلين لهم أو نواباً من خلال الاقتراع السري المباشر. ومن الهام هنا التوضيح بأنه من الضروري كبداية أن نتعرف على الهدف من التطور الديمقراطي، ثم أن تكون وسائل تحقيق هذا الهدف واضحة من قبل الجميع، وأن تكون الأهداف كافلة للحرية والسيادة الشعبية والمساواة السياسية بين القوى والمساواة الاجتماعية بين الأفراد.
لكي تتحقق الديمقراطية النيابية بنجاح، يجب أن يتوفر شكل معين من العدالة الاقتصادية الاجتماعية، وأن تتوفر فرص المشاركة الإيجابية الواعية للشعب في العملية السياسية، وهذا بدوره يتطلب توافر بعض الظروف المادية، وأن يزول القلق من البطالة والفقر، وأن يسود معدل معقول للأجور، وأن توفر الدولة حداً مطمئناً من التعليم بكل مراحله، والرعاية الصحية بمختلف درجاتها، وأن يتم ردم الفجوات الفاحشة للفروقات بالدخل، كل ذلك من شأنه أن يفرز مناخاً ملائماً لمشاركة إيجابية ذكية من قبل الشعب وقواه المنظمة في المسائل العامة.
عند تحديدنا لهدف الاستحقاق الانتخابي القادم، وجب علينا أن نضع في أولوياتنا تصويب السلبيات والمثالب التي أفرزها قانون الصوت الواحد الذي مزّق النسيج الوطني وفتت الولاء الجامع للوطن، لصالح الولاءات والانتماءات الفرعية الضيقة للناخب والنائب على السواء، وأثار النزاعات العشائرية والعائلية والفئوية، وشكّل عائقاً دائماً في طريق أي خطوة مرجوة باتجاه الإصلاح السياسي وتنمية الحياة الحزبية، وفوّت الفرصة لأكثر من عقدين على تشكيل بيئة برلمانية تسمح بتشكيل حكومات برلمانية، وكتل برنامجية راسخة تستطيع القيام بواجباتها الرقابية والتشريعية.
في استطلاع أولي حديث حول مشروع الانتخاب، أظهرت النتائج بأن هذا المشروع يحظى بتأييد 80% من قادة الرأي! ومن الواضح بأن التركيز الإعلامي الحكومي بالتوجه لدفن ” الصوت الواحد ” وتبني استحداث ” التمثيل النسبي ” قد أعطى أثراً إيجابياً مبدئياً في قبول القانون بصورة أولية حتى قبل إجراء قراءة معمقة لمواده، ولكنها أيضاً تعكس قصوراً عاماً بأن هذا المشروع من الممكن أن يشكل قاعدة معقولة لحوار وطني جاد قد يضع البلاد على مسار الإصلاح السياسي، ولكن في واقع الأمر فإن حجماً من الشكوك ما تزال ماثلة في معظم مواد المشروع، ويعزز من ذلك الحالة السياسية الاجتماعية المتردية التي خلّفتها سياسات الحكومة على مدى 3 سنوات. هذه الحكومة التي قدّمت قانوناً إشكالياً للأحزاب، وفرضت نفسها بشكل استبدادي على قانون اللامركزية، وتزداد الصورة شحوباً بوجود مجلس النواب بتركيبته العاجزة، وممارساته المتردية والمحسوب بأغلبيته على قوى الشد العسكي، المنشد لمصالحه الخاصة والخاضع لتأثيرات السلطة التنفيذية.
هنا يصبح السؤال مشروعاً عن مدى جدية الحكومة في إحداث نقلة نوعية في الحياة السياسية، أم أنها ما تزال تسعى، ومن خلال تغييرات غير جوهرية، إلى الاستمرار في ضبط قواعد اللعبة السياسية والحفاظ على الوتيرة الحالية من التحكم بمخرجاتها، بعد أن عمد التحالف الحاكم لسنوات، وعبر قانون الانتخاب بعد تفتيت الولاءات الجامعة، وإضعاف حلقات تواصل المجتمع المدني وتجريده من طبقات الحماية التي تقيه من تبعات الاستبداد، وتجيير كل ما ينتج من ولاءات فرعية لصالحها واستمرار سيطرتها.
في المشروع الجديد، تستبعد الحكومة بالكامل أي شكل من التمثيل الوطني الواسع، وتكرس تعميم مبدأ الدوائر الصغيرة في إطار المحافظة، ثم تقسم المحافظات الكبيرة إلى دوائر، أليست هذه طريقة إلتفافية ووصفة أكيدة للعودة إلى مربع الصوت الواحد؟! تدرك الحكومة وندرك معها بأنه كلما استهدف المرشح رقعة جغرافية وديمغرافية أكبر يصبح مُلزماً بتوسيع إدراكه الجمعي، وتطوير رؤيته ومحتوى برنامجه، والارتقاء بأدائه ودوره والابتعاد عن أساليب التحايل الانتخابي وتوظيفات المال السياسي، الأمر الذي من شأنه الارتقاء بالمضمون السياسي للعملية الانتخابية ويهيئ الفرصة لتشكيل كتل برلمانية قوية، ويبدو بأن حكوماتنا لا تريد أن يحصل ذلك.
عندما يتكلم المشروع عن القوائم النسبية، فإننا نفترض مبدأ العدالة والمساواة، وبالتالي يجب أن لا يبقى مبدأ الكوتات وارداً، بل إن استمرار العمل به من شأنه تكريس حالة الأقليات وكأنها مجاميع، ديمغرافية ذات مصالح وهويات تحت وطنية، يقوم القانون بدفعها خارج النسيج الوطني وهذا التوجه، بالإضافة لكونه محاطاً بشُبهة دستورية حقيقية، فإنه سيؤدي إلى تأبيد آفات الطائفية والفئوية والجهوية والتمييز العرقي والديني.
الحكومة تراوغ وتحاول أن تُضيع على المجتمع فرصة مواتية للتطوير السياسي، وعلى القوى الداعية للتغيير أن تهيء الظروف وتوفر المعطيات لخلق تيار سياسي مؤثر يفرض إرادته بإدخال التعديلات الملائمة على المشروع وصنع الفارق المطلوب، وإلا سنبقى نراوح في نفس المكان.