ما هي المسيحية الصهيونية؟
هذه المقالة هي محاولة لتعريف المسيحية الصهيونية. سأركز هنا على المصطلحات والمفهوم القائم وراء مصطلح “المسيحية الصهيونية”، وذلك للدعوة إلى تفكير حول هذه الظاهرة لدى الجماعة المسيحية في الأرض المقدسة. فأنا لا أسعى هنا للبحث عن أجوبة للتحديات التي تفرضها هذه الإيديولوجية على الكنيسة المحلية في الأرض المقدسة، ولو أني سأعدد بعض المجالات التي يمكن أن تُواجَه فيها. ولكن، قبل الخوض في هذا التحدي بشكل حقيقي، لا بدّ للمرء أن يحدّد بوضوح تام هذه الظاهرة لتمييزها عن مفاهيم أخرى مشابهة. وبغية تسهيل عملية تمييز المسيحية الصهيونية عن المفاهيم الأخرى، نتوقف، في الجزء الأول من هذه المقالة، عند تعريف الصهيونية بشكل عام. فمن الضروري التمييز بوضوح بين الصهيونية والمسيحية الصهيونية لفهم كل واحدة على حده انطلاقاً من التعابير الخاصة بها.
أقترح هنا خمسة أقسام أسعى فيها إلى تقديم بعض التعاريف الأساسية:
1. ما هي الصهيونية؟
2. كيف تعاملت اليهودية مع الصهيونية؟
3. كيف تعاملت المسيحية مع الصهيونية؟
4. ما هي الصهيونية المسيحية؟
5. ما هي التحديات التي يواجهها مسيحيو الأرض المقدسة في وجه الصهيونية المسيحية؟
أولاً: ما هي الصهيونية؟
تشير كلمة “صهيون” في العهد القديم بشكل عام إلى القدس. فهي تظهر مئة وأربعا وخمسين مرّة في العهد القديم، خاصةً في أشعيا (47 مرة) وفي المزامير (37 مرة). أما في العهد الجديد فتظهر الكلمة فقط سبع مرات، وهي في معظمها ضمن اقتباسات من العهد القديم. بالنسبة للكثير من المسيحيين، يبدو واضحا أنه، مع مجيء المسيح، لم يًعُد التركيز على أرض محددة (أرض إسرائيل) أو مدينة محددة (صهيون-القدس)، بل، بالأحرى، على كل بقاع الأرض. بعد هدم الهيكل الثاني في القدس، سنة 70 ميلادية، أحتفظ اليهود بذكرى القدس والهيكل في ممارساتهم الروحية والطقسية والدينية. تبعاً للاّهوت الحاخامي المحدث بشأن نهاية الزمان المسيحاني، فقد آمنوا أنهم سيعودون إلى القدس ويعيدون بناء الهيكل عند ظهور الملك المسيحاني. فعبر التاريخ اليهودي ظهر عدة مسحاء كذبة مستخدمين تعابير مسيحانية ونجحوا في خلق الفوضى والاضطراب في العالم اليهودي. لذا أصبحت السلطات الحاخامية تنظر بعين الريبة إلى أي شخص أو حركة تستغل مفهوم المسيحانية بما في ذلك مفهوم العودة إلى الأرض.
في هذه المحاولة لتعريف المصطلحات لا يتوفر لدي الوقت الكافي لسرد التاريخ الطويل والمعقد لظهور الصهيونية في العالم اليهودي. يكفي أن نذكر أنها أيديولوجية اجتماعية سياسية ظهرت أساسا في الأوساط اليهودية في القرن التاسع عشر في أوروبا، متزامنة مع ظهور أيديولوجيات قومية أخرى.
في الحقيقة، تشترك الصهيونية في العديد من صفاتها الأساسية مع نماذج الأيديولوجية القومية التي أصبحت من القوى الفعالة في أوروبا الشرقية في القرنين التاسع عشر والعشرين. كما أنه جدير بالذكر أن القرن التاسع عشر كان عهد إعادة اكتشاف الأرض المقدسة. فقد زار كل من اليهود والمسيحيين الأراضي المقدسة بأعداد كبيرة ومتزايدة كما وأصبحت الكتب التي تصف معالم الحياة في الأرض المقدسة واسعة الشعبية.
من ناحية أخرى، لا يستطيع المرء أن يقلل من أهمية إعادة الاكتشاف اليهودي والمسيحي للكتاب المقدس في ضوء الحفريات الأثرية الأولى في الشرق الأوسط. وبلا شك أيضا، أن الحركة الصهيونية تخللها دافع ديني روحي كان هدفه تجديد الشعب اليهودي وإضعاف سيطرة المؤسسة الحاخامية التقليدية على الحياة اليهودية في الشتات.
شهد القرن التاسع عشر أيضا مدّاً استعمارياً في آسيا وأفريقيا، حيث أسست القوى الأوروبية مستعمرات ومناطق نفوذ في العالم وخططت للاستيلاء على موارد البلاد المستعمرة ونشر الحضارة والديانة الأوروبية فيها. ومع انهيار الإمبراطورية العثمانية بدأت القوى الأوروبية تتدخل في الشرق الأوسط وخاصة في الأراضي المقدسة. فقد اهتمت القوى الأوروبية بمسائل مثل: الأماكن المقدسة اليهودية والمسيحية والأقليات اليهودية والمسيحية مما مكنها من فرض “حمايتها” على أماكن ومجموعات محددة وبهذا أقاموا مناطق نفوذ هامة. وعليه، فقد مثّل الصهاينة اليهود الحضارة الأوروبية وصار يُنظر إليهم كحلفاء للقوى الاستعمارية الكفيلين بالنظر بطريق إيجابية إلى وجود أوروبي في الأراضي المقدسة. وقد تفسر هذه العوامل إلى حد ما ظهور الصهيونية وتطورها.
سأوجز هنا المبادئ الأساسية للصهيونية في العالم اليهودي وذلك في إطارها العام. أعتقد أنه يوجد خمس بديهيات أساسية للصهيونية (سواء كانت ليبرالية أم محافظة، اشتراكية أم رأسمالية، يمينية أم يسارية). وهذه المبادئ الأساسية الخمس هي:
أ) هنالك “قضية” يهودية في الشتات اليهودي. فالصهيونية، أساسا،ً هي أيديولوجية أوروبية، لذا ركزت على تحليل الواقع اليهودي في البلاد الأوروبية ذات التقليد المسيحي. فحسب التحليل الصهيوني، الوجود اليهودي وبقاؤه هو وجود هش، لأن اللاسامية متأصلة في العالم المسيحي. ويرى الصهاينة أن لا شيء يمكن فعله لاجتثاث اللاسامية وأن اليهود سيبقون يعاملون بعدوانية وكغرباء في ارض الشتات، والبقاء في الشتات سيعرّض الحياة والبقاء اليهودي للخطر.
ب) يدّعي الصهاينة أن اليهود هم شعب مثل كل الشعوب، أي “شعب إسرائيل”، وهم بذلك يكوّنون “قومية”. وفي ظل تطور القومية في القرن التاسع عشر، فإن اليهود من حقهم هم أيضاً أن يتمتعوا بحق وجود قومي (مثل كل الشعوب الأخرى).
ت) تدّعي الصهيونية وجود أرض يهودية، هي “أرض إسرائيل”، للشعب اليهودي، “شعب إسرائيل”، حيث يصر العديد من الصهاينة على قراءة الكتاب المقدس (العهد القديم) وكأنه تاريخ للأمة اليهودية وللأرض اليهودية.
ث) تقول الصهيونية بضرورة انتقال الشعب اليهودي إلى الأرض اليهودية لتكون وطناً لجميع اليهود. وتسمى الصهيونية ذلك بـ “الصعود” (“عاليا”) وهي بذلك تسعى إلى وضع نهاية للشتات اليهودي.
ج) يجب أن تقام دولة يهودية في الأرض اليهودية، فهذا بالنسبة للصهيونية هو الحل لمشكلة البقاء اليهودي في عالم سيتخذ دائما موقفا معاديا للشعب اليهودي.
هذه هي البديهيات الأساسية الخمس التي تقوم عليها الصهيونية. ولكن من المهم الملاحظة أن هذه المبادئ الخمسة الرئيسة للصهيونية لا تقول شيئاً واضحاً عن الأمور التالية:
1. السكان الأصليون للأرض (الفلسطينيون، مسلمون ومسيحيون). فهي تشترك في ذلك مع أيديولوجيات القرن التاسع عشر التي سعت إلى زرع مستوطنات استعمارية في أفريقيا وآسيا متجاهلة السكان الأصليين غير الأوروبيين. فقد صُدِم بعض الصهاينة الأوائل لاكتشافهم أن فلسطين لم تكن “أرضاً بلا شعب لشعب بلا أرض”. واليوم قد يكون الصهيونيون متزمتين رافضين أية مفاوضات مع العرب الفلسطينيين أو من الباحثين المتحمسين عن السلام الذين يسعون إلى التفاوض ويقبلون بحل لهذا النزاع الفلسطيني الإسرائيلي على أساس إقامة دولتين.
2. حدود الدولة اليهودية. يطرح العهد القديم حدوداً مختلفة في أوقات مختلفة. أما الصهيونيون فقد يكونون من الغلاة أو من المعتدلين في مطالبهم الحدودية.
3. النظام السياسي في الدولة اليهودية. للصهيونية أشكال مختلفة، منها الاشتراكية أو الرأسمالية، العلمانية أو الثيوكراطية، اللبيرالية أو الديكتاتورية… الخ.
4. العلاقة بين الدين والدولة. أهم الانشقاقات داخل الصهيونية هي بين الصهاينة العلمانيين والمتدينيين. فدور الدين ليس واضحاً والمسألة تشكل نزاعاً قوياً. فما هي السلطة المدنية للمؤسسة الحاخامية وما هو وضع القوانين الحاخامية؟ ومع ذلك، يميل الصهاينة العلمانيون أيضا إلى اعتبار العهد القديم كوثيقة تاريخية تشرّع السيادة اليهودية على الأرض المقدسة.
في النهاية، من المهم التفريق بين اليهودية والصهيونية. فاليهودية هي ديانة قديمة تعود لآلاف السنين وهي تقليد حضاري وتاريخي. أما الصهيونية فهي أيديولوجية سياسية حديثة تطورت خلال القرن التاسع عشر في أوروبا وظهرت نتيجة للمشكلة التي يعيشها اليهود في هذا السياق. وهي واحدة من ردود الفعل العديدة. فليس كل اليهود صهاينة، كما أنه ليس من الضروري أن يكون المرء يهودياً حتى يكون صهيونياً. وبين التيارات المختلفة للصهيونية اليهودية هنالك تيار قومي-ديني كان، في بادئ الأمر، تياراً براغماتياً لا يبرز المطالب المسيحانية، ولكن، بعد حرب 1967، أتصف هذا التيار اليهودي اليميني الصهيوني بالراديكالية والمسيحانية الرؤيوية اليهودية والتصلب في ما يتعلق بالانسحاب من المناطق المحتلة وأصبح بؤرة الحركة الاستيطانية.
ثانياً: التعامل اليهودي مع الصهيونية:
من المهم أن نذكر أن اليهود لم يتحمسوا للصهيونية عند بداية ظهورها، فقد جاءت المعارضة الكبرى من تيارين، تيار اليهود المتدينين من جهة وتيار اليهود العلمانيين والليبراليين من جهة أخرى.
تركز المعارضة اليهودية المتدينة على ثلاث حجج:
1. الصهيونية هي نوع من المسيحانية المزيفة (أو حتى العلمانية)، فهي تدعي أن “نهاية الزمان” للعهد المسيحاني قد اقترب. حسب اليهودية الحاخامية التقليدية سيعود اليهود إلى الوطن فقط عندما تقترب الأوقات المسيحانية. وبالمقابل أصر الحاخاميون على أن النهاية لم توشك بعد.
2. الصهيونية في تقليدها للقومية الأوروبية الحديثة، تعزّز الذوبان والفقدان الجماعي للهوية الدينية. فاليهودية كانت وستظلّ، بشكل أساسي، ممارسة دينية.
3. إذا كان لا بد من وجود أي كيان يهودي مستقل فيجب أن يحكمه القانون التوراتي وليس القانون المدني الحديث.
خلقت هذه المعارضة الدينية جبهة دينية واسعة ضد الصهيونية عبر أوروبا ويمكن أن نجد بقايا هذه الجبهة إلى الآن في أحياء الأرثوذكس المتطرفين في القدس.
ارتكزت المعارضة اليهودية العلمانية والليبرالية على ثلاث حجج:
1. اليهودية هي هوية دينية وحضارية وتاريخية ولكنها ليست هوية قومية. فقد خاف العديد من اليهود العلمانيين المعارضين للصهيونية من أن الصهيونية قد تشكل خطراً على تعايشهم في بلاد إقامتهم كونها تعزز الفكرة بأن اليهود غرباء في بلادهم وأنه يجب أن يهاجروا إلى “صهيون”.
2. أصرّت هذه المعارضة على أن اليهود ينتمون إلى البلاد التي يعيشون فيها وأنهم يجب أن يندمجوا مع سكانها. فاليهودي الإنجليزي أو الفرنسي هو إنجليزي أو فرنسي مثله مثل أبناء وطنه المسيحيين والمسلمين.
3. حسب هذه المعارضة للصهيونية يجب مناهضة اللاسامية ومنعها من التحكم في حياة اليهود وخياراتهم في الشتات.
بقيت معارضة الصهيونية من قبل الاورثوذكسية المتدينة والليبرالية والعلمانية قوية حتى الحرب العالمية الثانية.
أسكتت المحرقة التي حدثت في أوروبا (1941-1945) المعارضة، وذلك عندما مات العديد من اليهود المعادين للصهيونية، من متدينين وعلمانيين، في معسكرات الإبادة. أما بقية اليهود أولئك الناجون منهم وأولئك الذين عاشوا خارج أوروبا فقد صُعِقوا حتى الصمت. عملت المحرقة، والتي كانت نتيجة قرون من اللاسامية، أكثر من غيرها على إقناع اليهود وغير اليهود لقبول المنطق الذي تتحدث به الصهيونية. فقد أثبتت أن الصهيونيين كانوا محقين أو حتى متنبئين بأن اليهود لن يتمكنوا من أن يجدوا مكانهم داخل المجتمعات الأوروبية.
واليوم ما زال الانشقاق في العالم اليهودي حياً. فقد لوحظ مراراً وتكراراً أن الصهيونية لم تنجح في تحقيق أهدافها. وفيما يلي نسرد أكثر ملامح الفشل وضوحاً التي تعرضت لها الصهيونية:
1. الأغلبية اليهودية ما زالت تعيش في الشتات (والعديد من اليهود الإسرائيليين يهاجرون من إسرائيل أيضاً).
2. لم تجلب الصهيونية الأمان لليهود. فإسرائيل هي من أقل الأماكن أمناً بالنسبة لحياة اليهود.
3. انتشرت اللاسامية اليوم جزئياً بسبب السياسات التي تتبعها دولة إسرائيل مما يجعل الحياة اليهودية غير آمنة أينما كانوا.
4. يقلق الصهيونيون الليبراليون بشكل متزايد بسبب صعوبة تحقيق وجود دولة يهودية تكون أيضا ديمقراطية، ودولة يهودية تكون أيضا علمانية.
ثالثاً: التعامل المسيحي الغربي مع الصهيونية:
كيف كانت ردة فعل المسيحية الغربية تجاه الصهيونية؟ في البداية لم يكترث المسيحيون الغربيون للصهيونية التي نشأت في الأوساط اليهودية رغم وجود بعض المسيحيين الغربيين الذين شجعوا الأفكار الصهيونية. ولكن ذلك تغير بعد الحرب العالمية الثانية عندما انتشرت المساندة المسيحية الغربية للمعتقدات الصهيونية. لماذا حدث ذلك؟ من بين الأسباب نجد العوامل التالية:
أ) انتشر التعاطف مع اليهود إثر المعاناة اليهودية في أوروبا خلال المحرقة. فقد ولّدت المحرقة الشعور بالذنب لدى العديد من المسيحيين الغربيين مما دفعهم لدعم اليهود والمعتقدات الصهيونية ومن ثم دولة إسرائيل.
ب) خلال الحرب العالمية الأولى اكتشفت الحكومات الغربية في القيادة اليهودية الصهيونية حليفاً مؤيداً لطموحات الغرب في الشرق الأوسط. فاليهود الصهاينة الذي كانوا بالأصل أوروبيين وأمريكيين لطالما تشاطروا معهم الرغبات السياسية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية في الشرق الأوسط. فقد رأت الإدارة الأمريكية والأوروبية في الدولة اليهودية في الشرق الأوسط حليفاً لها في منطقة تسيطر عليها قوى غير غربية من العرب والمسلمين.
ت) بعد الحرب العالمية الثانية تلاحقت اكتشافات المسيحيين الغربيين لأصولهم الإيمانية اليهودية مما زاد من تعاطفهم مع اليهود ومع الإدعاءات اليهودية السياسية وهذا بالتحديد ينطبق على الكنائس الكاثوليكية والبروتستنتية والإنجيلية.
ث) أخيراً، تتفق الصهيونية ظاهرياً مع ما يقوله الكتاب المقدس، تحديداً العهد القديم، الذي يقول أن الله وعد اليهود بوطن لهم. فقراءة الكتاب المقدس قد تدفع القارئ مسبقاً لتقبل الصهيونية حيث يبدو أنها تتفق مع الكتاب المقدس في أن فلسطين هي أرض وهبها الله لليهود. فالخلفية الدينية الكتابية لبعض السياسيين الأمريكيين والبريطانيين كانت دافعاً قاطعاً لدعمهم للمعتقد الصهيونية ودولة إسرائيل.
ولكن من المهم التأكيد على أن المسيحيين الغربيين الذين يشاطرون بعض أو كل هذه الصفات هم ليسوا صهاينة مسيحيين. فقد يكونون متعاطفين مع القضية الصهيونية ويدعمون الدولة اليهودية ولكنهم ليسوا بالضرورة متعامين عن الأعمال غير الإنسانية ضد الفلسطينيين. فهم قادرون على رؤية الأحداث في فلسطين / إسرائيل ضمن إطار سياسي وتاريخي وقد يتفاعلون أيضاً مع قضية الدفاع عن حقوق الإنسان والعدل والسلام في فلسطين / إسرائيل.
رابعاً: ما هي المسيحية الصهيونية؟
لقد عرفت مطولاً نظرية الصهيونية وردات الفعل اليهودية والمسيحية تجاهها من أجل تمييزها عما أصبح يدعى بالصهيونية المسيحية. فالمسيحية الصهيونية هي مصطلح حديث نسبياً ولكنه يشير إلى نوع من الفكر المسيحي الذي هو أقدم من الصهيونية ويمكن أن يتواجد خاصة في عدة كنائس غير تقليدية، بالتحديد في المناطق الانجلوسكسونية (أمريكا وبريطانيا) والعالم الأوروبي الشمالي (هولندا واسكندنافيا). وهنا أيضاً أحاول ألاّ أطيل الحديث عن تاريخ الصهيونية المسيحية الطويل والمعقد في مظاهرها المتعددة ولكنني سأحاول تعريف هذه الظاهرة متوقفا عند معتقداتها الرئيسية. على كل حال، نذكر هنا أن المسيحية الصهيونية انتشرت في القرن التاسع عشر في نفس الظروف التي ذكرناها سابقاً. وبينما تطورت الصهيونية بشكلها العام كأيديولوجية سياسية اجتماعية في الأساس، فإن المسيحية الصهيونية هي أيديولوجية دينية بحتة.
ترتكز الصهيونية المسيحية على ثلاثة دعائم أساسية:
أ) ما يميز الصهيونية المسيحية هو نظرة كتابية إلى العالم. فمن ابرز صفاتها أنها تحاول قراءة الأحداث المعاصرة في سياق الكتاب المقدس. فيبدو في أغلب الأحيان أن جرائد الأخبار اليومية تقرأ بعيون كتابية.
ب) السؤال الرئيسي الذي تطرحه المسيحية الصهيونية هو ذلك المتعلق بالأواخر: متى يعود المسيح؟ فالمسيحيون الصهاينة يدعمون فكرة أننا على حافة نهاية الزمان وأن عودة المسيح أوشكت. وتشير أحداث العالم اليوم إلى سيناريو نهاية هذا الزمان.
ت) في قلب نهاية الزمان هذا تركز الصهيونية المسيحية على الشعب اليهودي ودولة إسرائيل. تقول الصهيونية المسيحية إن الوعود المقدمة إلى الكنيسة في نهاية الزمان والمتعلقة بالاعتراف الشامل بالمسيح كإله ومخلص، يجب إن يسبقه الإيفاء بوعود العهد القديم لإسرائيل. وتتضمن هذه الوعود عودة اليهود إلى وطنهم وتأسيس دولة يهودية وبناء الهيكل الثالث. وهذا كله يدعو إلى شبوب حرب نهاية الزمان التي يجب إن تسبق عودة المسيح الثانية.
تعود أصول هذا الخلط بين الأصولية الكتابية وقرب الأزمنة الأخيرة والتركيز على إسرائيل إلى القرن السادس عشر. ففي بريطانيا عام 1585 دعا توماس برايتون إلى الفكرة القائلة بأن عودة اليهود إلى الأرض المقدسة هي ضرورية من اجل تسريع عودة المسيح. في القرن التاسع عشر نشر فكرة “ما قبل الألفية” قس انجليكاني يدعى داربي وقد أدعى أنه في نهاية الزمان سوف يُنْقَل المؤمنون المسيحيون بأعجوبة من الأرض لحمايتهم من الكوارث الفاجعة المتنبأ بها. عندها سيستخدم الله إسرائيل كأداة لعقاب غير المؤمنين. وبدأ المسيحيون الإنجيليون استخدام نسخة الكتاب المقدس التي نشرها سكوفيلد مُذيَّلَة بتعليقاته التي تركّز على وعود ما قبل الألفية التي يجب أن تُستوفى. نمت هذه الأفكار وانتشرت في الأوساط المسيحية الإنجيلية خاصة في الولايات المتحدة الأمريكية بعد تأسيس دولة إسرائيل وربما انتشرت أكثر بعد حرب 1967 والاحتلال الإسرائيلي لمناطق “يهودا والسامرة”، لب الأراضي الكتابية.
بالاعتماد على الدعائم الثلاثة الأساسية للصهيونية المسيحية بني مفهوم لاهوتي وسياسي يتضمن العناصر التالية:
1. إن القراءة الأصولية لتاريخ وتنبؤات العهد القديم تركز على مواضيع الاختيار والشعب والأرض. وقد فُهم النص الكتابي بعيداً عن أي سياق تاريخي أو نقدي. أما الأحداث التي يصفها العهد القديم فقد طُبِّقت على الأحداث المعاصرة.
2. شملت هذه القراءة الكتابية، بنوع خصوصي، فهم دولة إسرائيل وواقع اليهودية المعاصرة. فقد تمّ التأكيد، بغير لبس، على الاستمرارية بين الوجود اليهودي في فلسطين سنة 70 قبل الميلاد وظهور دولة إسرائيل عام 1948. فقد وُعِد اليهود بالوطن ومازال هذا الوعد قائماً حتى اليوم كما كان في أيام إبراهيم.
3. كانت التدبير الإلهي دائماً هي تحقيق الخلاص عن طريق إسرائيل. وتأسست الكنيسة فقط بسبب رفض إسرائيل للمسيح وقد جاءت هذه الرؤية من قراءة ما ورد في الرسالة إلى أهل رومية فصل 9-11. حسب المسيحية الصهيونية، انتهى عهد الوثنيين (أي كنيسة الأمم) وفق نبوءة المسيح في لوقا 24:21. فأحداث 1948 (تأسيس دولة إسرائيل) وأحداث 1967 (امتداد الحكم اليهودي إلى البلدة القديمة في القدس) يبدو أنه يشير إلى نهاية الزمان.
4. استُخْدِمت بعض النصوص المتعلقة بنهاية الأزمنة في العهد القديم (خاصة الأنبياء – حزقيال 37-38، دانيال، زاكريا 12-14) وفي العهد الجديد (لوقا 21:21-24، تسالونيكي 4-5، سفر الرؤيا للقديس يوحنا) للتكهن بدقة بانتصار “شعب الله” في أحداث فاجعة وفهم أن ذلك بدأ يتحقق في أوقاتنا الحاضرة.
5. يميل المسيحيون الصهاينة ليس فقط إلى معرفة تفاصيل هذه الأحداث بل إلى معرفة الجدول الزمني لقناعاتهم. تعد أحداث 1948 و1967 نقاط تحوّل مهمة حيث أن ساعة النهاية بدأت تدق منبأة باقتراب النهاية. وفي الوقت العصيب (أنظر مرقس 13 وسفر الرؤيا 12-19)، الذي يسبق عودة المسيح الثانية، سوف تحارب إسرائيل معارك الله، التي ستبلغ ذروتها في معركة هرمجدون (سفر الرؤيا 19). وبعد عودة المسيح سيبدأ حكم المسيح الألفي، الذي سينتهي بالهزيمة الكبرى للشيطان وأعوانه. وسيتخلل هذا الوقت الكثير من العنف والحرب والدمار.
6. لا بدّ من العنف والحرب والدمار في أيامنا هذه وذلك لتنفيذ مشيئة الله. وكل هذا تم وصفه في نبوءات العهد القديم وبشكل أدق في سفر الرؤيا للقديس يوحنا. فالمعاناة البشرية هي طقس من طقوس هذا الإيفاء بعهود الرب، أولاً لإسرائيل وثانياً للكنيسة، وخلال كل ذلك تخدم إسرائيل مصالح الانتصار المسيحي.
7. يلعب الإسلام والمسلمون في سيناريو الحرب هذا دور القوى الشريرة (قبل الإسلام كانت الشيوعية تلعب هذا الدور الوحشي). ستواجه إسرائيل الإسلام وتخضعه حيث أن المسلمين لهم خياران فقط بالنسبة للمسيحيين الصهاينة: إما أن يعتنقوا المسيحية ويتقبلوا هذه الأفكار المسيحية الصهيونية (ويحاول المسيحيون الصهاينة جاهدين أن يحققوا هذه الغاية) أو أن يموتوا في الأحداث الفاجعة المصاحبة لنهاية الزمان. وفي الحقيقة، فإن المسيحيين العرب أمامهم نفس الخيارات كإخوانهم المسلمين (ويطمح المسيحيون الصهاينة بإخضاعهم هم أيضاً لقناعتهم.
8. تعمل المسيحية الصهيونية على خلط الدين بالسياسة خدمةً للمصالح الإسرائيلية. فالمرجع التوراتي لهذا السلوك السياسي يأتي من كلمة الله لإبراهيم عندما قال “أبارك مباركيك وألعن لاعنيك” (سفر التكوين 2:12). على كل حال، من المهم الملاحظة أنه رغم مناصرة المسيحية الصهيونية لليهود فإنها ليست حليفة للديانة اليهودية. ففي النهاية ليس لدى اليهود أيضاً خيار مختلف عن المسلمين فإما أن يعترفوا بالمسيح أو أن يتم ابتلاعهم في فواجع نهاية الزمان (وهم أيضاً يتم تبشيرهم من قبل المسيحيين الصهاينة.
من خلال وصفنا لمعتقدات المسيحية الصهيونية يتبين لنا أن هذا الخلط بين الأصولية الكتابية وكابوس الأزمنة الأخيرة يختلف تماماً عن النشاط الاجتماعي- السياسي للصهيونية كما تطورت في العالم اليهودي.
على كل حال، بعد حرب 1967 ظهر تيار جديد من الصهيونية اليهودية المتدينة والمسيحانية لتوازي المسيحية الصهيونية، وذلك بعد انتصار إسرائيل “العجائبي” في حرب 1967 واحتلالها لمدينة القدس القديمة ومدن الخليل وأريحا وبيت لحم ونابلس. وقد كانت هذه الحركة الصهيونية اليهودية المتدينة رأس الحربة في الاستعمار الاستيطاني في الضفة الغربية وغزة واتخذت موقفاً شديد المعارضة لأي نوع من أنواع التنازل عن المناطق المحتلة. ويرتكز أيضاً هذا الشكل اليهودي من أشكال المسيحانية الصهيونية على الوعود التوراتية ويقرأ الإحداث المعاصرة على أنها تحقيق لهذه الوعود الإلهية.
بعد النصر الذي حققه الحزب اليميني الليكودي عام 1977 بقيادة ميناحيم بيجن تكوّن حلف بين اليمين اليهودي الصهيوني والمسيحية الصهيونية. وقد كان هذا الحلف قوياً بالتحديد بين العناصر المتدينة في اليمين الإسرائيلي اليهودي والمسيحيين الصهاينة. على كل حال كان هذا الحلف متوتراً وهشاً، حيث يركز الصهاينة اليهود اليمينيون على المصالح الراهنة (ففي الوقت الراهن من الحرب يحتاجون إلى دعم المسيحيين الصهاينة الذين يشكلون قوة ضغط سياسية مهمة في أمريكا)، بينما يهتم المسيحيون الصهاينة بالمستقبل الرؤيوي (أي أن اليهود سيؤمنون بالمسيح). فالمتدينون اليهود غير مرتاحين أصلاً للأهداف التبشيرية للمسيحية الصهيونية والمسيحيون الصهاينة غير مرتاحين لمواقف اليمين المتدين اليهودي ضد المسيحية عامة. وظهر هذا التوتر حول عدة قضايا، مثل النشاط التبشيري للمسيحية الصهيونية بين اليهود والوضع القانوني لليهود المؤمنين بالمسيح في إسرائيل، ومنح تأشيرات إقامة طويلة المدى للمسيحيين في إسرائيل (ومنهم المسيحيون الصهاينة) وشرعية توزيع نسخ من العهد الجديد على اليهود وغيرها من المسائل. على كل الأحوال فقد تشارك الطرفان في معارضتهما لأي نوع من أنواع التنازل عن الأراضي في المفاوضات مع الفلسطينيين ودعمهم للإستيطان في الأراضي الفلسطينية والإصرار على توحيد القدس تحت السيطرة الإسرائيلية وتشجيع الهجرة اليهودية إلى إسرائيل والهجرة الفلسطينية من فلسطين والعداء للإسلام والمسلمين والقومية العربية.
بالإضافة إلى الحلف الذي حصل بين المسيحية الصهيونية والصهيونية اليهودية الإسرائيلية المتدينة المسيحانية، تقبلت عناصر مهمة في الإدارة الأمريكية بعض معتقدات هذا النوع من الأيديولوجيا. فقد فرض الإنجيليون الأمريكيون أنفسهم على الحلبة السياسية والكثير منهم يشارك المسيحيين الصهاينة في معتقداتهم، ومنهم من عملوا كمستشارين مهمين للرؤساء الأمريكيين، بالتحديد في أوقات الرئيس ريجان وبوش الأب وبوش الإبن. وتبنت وسائل الأعلام الإنجيلية هذه الايديولوجية حيث تقدم مجموعةٌ واسعة من شبكات التلفزة الأجندةَ الإنجيلية للمشاهدين في أمريكا وفي كل أنحاء العالم. تجمع المسيحية الصهيونية بشكل فعال وناجح بين أهمية الأعلام والحركة السياسية. ومن الواضح أن أيديولوجية الصهيونية المسيحية وجدت صدى أكبر لها في ضوء الأعمال العسكرية الأمريكية في أفغانستان والعراق والحرب على الإرهاب (الذي غالباً ما يستخدم كمرادف لإسلام متزمت.
خامساً: التحديات التي يواجهها المسيحيون في الأراضي المقدسة في وجه المسيحية الصهيونية:
في الخاتمة أود أن أقترح مجموعة لأهم تحديات المسيحية الصهيونية التي قد يواجهها مسيحيو الأرض المقدسة وكنائسهم.
أ) الوحدة المسيحية: يجب أن تطرح التجربة المسيحية الحيّة في مواجهة المسيحية الصهيونية. فالهوية المسيحية (التمسك بالأرض)، والحياة المسيحية (عيش الإنجيل) والشهادة المسيحية (تعزيز قيم المغفرة والسلام والعدالة) قد تكون مصلاً مضاداً للتوجّه اللاإنساني والفكر الرؤيوي المتزمت الذي تنادي به الصهيونية المسيحية التي غالباً ما تتجاهل حقيقة وجود الفلسطينيين المسيحيين والعرب المسيحيين. فالشهادة المسيحية الحية في الأرض المقدسة يمكن أن تكشف الجوانب الشريرة للصهيونية المسيحية.
ب) قراءة الكتاب المقدس: على مسيحيي الأراضي المقدسة أن يعملوا معاً على قراءة الكتاب المقدس وتفسيره، مع ما ينطوي على ذلك من دفاع وتعميق لفهم وحدة العهدين، القديم والجديد. فالله له خطة واحدة لخلاص شعب الله وهي تلك التي تتجلى في دينامية الكتاب المقدس. وهذا العمل يجب أن يقوم به مسيحيو الأرض المقدسة معا، مستخدمين لهذا الغرض الطرق الوفيرة لقراءة الكتاب المقدس، التقليدية منها والحديثة. وللمسيحيين الفلسطينيين دور مهم يقومون به من خلال مساهمتهم في فهم أهمية الوحدة بين الكتب المقدسة المسيحية ووحيها لخلاص الله للإنسانية كما يظهر في تلك الكتب.
ت) الحوار مع المسلمين: على مسيحيي الأراضي المقدسة أن يطوروا حواراً لفهم الإسلام. فلا ينبغي على الفلسطينيين المسيحيين والمسيحيين العرب أن يتبنوا الموقف الساذج الذي يقوم على الأسود والأبيض الذي تأخذ به المسيحية الصهيونية تجاه الإسلام. إن القرون الطويلة من العيش المشترك بين المسيحيين والمسلمين والمساهمة المسيحية في الحضارة الإسلامية والمحيط العربي المشترك بين المسلمين والمسيحين يمكن أن تؤدي إلى تطوير لاهوت مسيحي للحوار بخصوص المسلمين والإسلام.
ث) الحوار مع اليهود: على مسيحيي الأرض المقدسة أن يطوروا معاً فهماً إيجابياً لليهودية يستند على الحوار. وهذا الفهم يجب أن يكافح من أجل القضاء على اللاسامية وللبحث عن شركاء يهود (في إسرائيل وفي الشتات) للنضال من أجل العدالة والسلام لكل سكان الأراضي المقدسة. وبالتحديد، يجب البحث عن الحلفاء اليهود الذين يسعون لكشف الجوانب المظلمة للمسيحية الصهيونية. فالمسيحية الصهيونية تجرّنا جميعاً، يهودا ومسيحيين ومسلمين إلى العنف والشر والموت.
ج) الوعظ بالملكوت: إن الالتزام بالحياة المسيحية هو التزام بإعلان ملكوت الله كما وعظ بها المسيح في التطويبات الإنجيلية وحققه على الصليب. “فإذا اتحدنا به فصرنا على مثاله في الموت، فسنكون على مثاله في القيامة أيضا” (رومية 5:6). فالتمسك المسيحي بشخص المسيح لا يمكنه إلا أن يحررنا من عبودية ايديولوجيات الاستعباد والعنف.