ثقافة وأدب

“ما تبقى لنا…” / مي عابدين

– قديش في عرب بالرملة؟
-كثير يا عمي…
-يعني اكثر من 5000؟
-هووو، نطينا العشرة…
-طمنتني.كان هذا أول ما تبادر لذهن “عمو” غازي سؤال أحد شبان الرملة عنه خلال زيارته الأولى لمدينته، بعد انقضاء أكثر من 60 عاما منذ أن أصبح لاجئًا في دمشق، وقبل أن يشرع في البحث عن منزله كعادة اللاجئين ممن حالفهم الحظ في العودة إلى الوطن.
أخذ ينبش في ذاكرته عن قصص وخرافيّات كان قد سمعها لآخر مرة في الرملة عندما كان ابن 10 أعوام ليقوم بعد ذلك بتوجيه المزيد من الأسئلة لمن بقي من سكان الرملة دونهم عنها. عن مقام البسطامي، عن المأدنة التي كانت محط نزاع بين أهل اللد والرملة وعن الحي المسيحي وغيرها.
كان من المهم له التأكد من صمود الذاكرة الفلسطينية رغم سياسات الاحتلال الممنهجة لطمس كل ما هو فلسطيني من ذاكرة الاجيال الناشئة.
عمد الاحتلال ومن خلال هذه السياسات إلى تفتيت وتقسيم الهوية الجمعية الشعبية واستبدالها بهويات طائفية وقبلية، فبعد احتلال فلسطين وإسقاط الجنسية “الاسرائيلية” على أصحاب الأرض، قام الاحتلال بتصنيف الفلسطينيين في الهويات الرسمية بداية إلى “مسلم، مسيحي، درزي، شركسي وبدوي” ليتبعها لاحقا بسياسة الفصل بين الشعب الواحد من خلال استمالة بعض رجال الدين من الطائفة الدرزية في مطلع الخمسينيات لإلزام تجنيد شبابهم في صفوف جيش الاحتلال ومن ثم تخصيص مدارسهم بمناهج خاصة استبدلت بها الهوية القومية بالهوية الدينية وتزوير تاريخ الموحدين في نضالهم ضد الاستعمار في محاولة لعزلهم عن باقي مكونات الشعب الفلسطيني.
على الرغم من سياسات الأسرلة المتعددة من ترغيب وترهيب، من مصادرة أراض وملاحقات قانونية، من محاولات إغراء الشبان والشابات واستدراجهم داخل مؤسسات الاحتلال المدنية والعسكرية، ومن محاولات إعادة توجيه بوصلة نضال الفلسطيني وحصره في النضال الخدماتي والحقوقي والمواطنة، إلا أنه – ونتيجة لانتشار استخدام وسائل التواصل المجتمعي –بدأت مجموعات شبابية بالتشكل والتواصل تضم شباباً من الضفة وغزة والقدس والداخل المحتل وفلسطينيين في الشتات والمخيمات لتبدأ معها نشاطات شبابية تهدف إلى إعادة التعريف بالموروث الثوري والنضالي الفلسطيني لنشر الوعي كل من مكانه. كان الملفت للنظر في هذه الحراكات إعادة توضيح وتصحيح تعريف الفلسطيني الذي بقي في قراه ومدنه وقاوم التهجير وسياسات الترحيل “الترانسفير”.
كانت هذه المجموعات الشبابية بمثابة الحاضنة الشعبية خاصة لفلسطينيي الداخل الذين تم إسقاطهم عن قصد من كافة اشكال المفاوضات والأجندات السياسية العربية والفلسطينية خاصة، مما سعى بهم إلى محاولة الانصهار داخل المجتمع “الاسرائيلي” كأداة من أدوات “صراع البقاء” والتي ما لبثت أن بدأت بالانهيار مع العودة إلى الهوية الوطنية الداعمة.
إن محاولات الاحتلال المتكررة من خلال تخصيص ميزانيات عالية لصهر وعي الشباب الفلسطيني ليست إلا إدراكًا من هذا الكيان لأهمية وخطورة دور الداخل الفلسطيني في ضرب المشروع الاستعماري الصهيوني كما حدث في الانتفاضة الثانية، وهي ليست إلا محاولات لضمان عدم تشكيل (أو إعادة تشكيل) حركات تحرر ثورية قادرة على مواجهة الاحتلال وضربه من خلف خطوط العدو.
“عرب اسرائيل،،، عرب الداخل،،، عرب ال48” جميعها مسميات تهدف إلى توصيف فلسطينيي الأراض المحتلة عام 1948 وسلخهم عن جذورهم وفك ارتباطهم بالقضية الفلسطينية وتصويرها على أنها شأن خارجي. إلا أنه ومن خلال التجربة تبين هشاشة هذه المفاهيم وإمكانية محاربتها وإسقاطها. فابن الرملة والساحل وابنة الجليل والمثلث فلسطينيو الهوا والهوية بالفطرة ومتى توفرت بيئة داعمة ومساندة لهم في خصوصية صراعهم المباشر مع الاحتلال، أمكن استعادتهم وإرجاعهم إلى المنظومة الوطنية الشاملة ليعودوا جزءً أساسياً في الصراع ضد الاستعمار بعيدًا عن أروقة الكنيست ومفاهيم المواطنة والحقوق مقابل الواجبات.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى