مقالات

ماكرون.. وفن صناعة الرئيس

فور الإعلان عن فوزه مساء 14 أيار، كان الرئيس “الشاب”، بملامحه الأرستقراطية الحادة، يصر على قطع الساحة وحيداً فوق البلاط الحجري لمتحف اللوفر الباريسي الأنيق، بخطوات متهادية مرتجفة قليلاً، ليصعد إلى المنصة التي أقيمت خصيصاً في المكان لتحية مناصريه.
في اليوم التالي كانت باريس ومعظم عواصم العالم تتابع احتفالات متنوعة مغدقة في بذخها ورمزيتها لتليق بـ”ملك” فرنسا المتوج الجديد.
تساءل الكثيرون عن سر صعود ماكرون الصاروخي من موظف بنك إلى رئيس للجمهورية الفرنسية في أقل من خمس سنوات، وتغنى الآخرون بعصاميته وارتقائه السريع على سلم الوظائف العامة، بكفاءته وعبقريته الفذة، وتمت الاشادة ببرنامجه “الحقيقي” الجديد حيث قدم نفسه خارج تجاذب المحورين العريقين، وبدون امتلاكه لماكينة حزبية حقيقية!
في واقع الأمر لم يحظ مرشح رئاسي بهذا الدلال كما حظي به ماكرون. أكبر وأهم “بترينات” الإعلام الفرنسي شكلت له منصة إعلامية هائلة، وضعت مرشحها فوقها وأحاطته بسياج حماية، افتعلت له سيرة تاريخية، ليس له منها سوى محطات متنافرة، حتى قضايا الفساد التي أسقطت منافسية المخضرمين، لم تترك عنده أثرا!
ولد إيمانويل ماكرون في العام 1977، في مدينة أميان في الشمال الفرنسي من أبوين طبيبين، وارتاد ما يسمى” الطريق الملكية”، كما فعل من قبله فرانسوا هولاند وجاك شيراك وآخرون، فالتحق بالمدارس التي تتخرج منها النخب الحاكمة، ويذكره زملاؤه في تلك الحقبة بصورة الشاب الشاحب المهووس بالسجال والمناكفة.
في مدرسة النخبة، وفي عمر 15 عاما، التقى بزوجته الشقراء بريجيت، مدرسة الآداب والمسرح، متزوجة وأم لثلاثة أطفال وتكبره بأربعة وعشرين عاما، وتوطدت بينهما علاقة، ورغم رفض الأهل في الجانبين لهذه العلاقة، إلا أن بريجيت تطلقت، وتزوجا بعد عشرة أعوام من لقائهما الأول.
عند ترشحه، تحولت ما كانت تعتبر نقطة رمادية في حياة الرجل إلى سبب للإشادة، فاحتلت صور الزوجين الأنيقين أغلفة أكثر المجلات مبيعا، مكرسةً صورة المحب المتفاني، ورجل الدهشة والمستحيل، مضفيةً على مرشحنا هالة المتمرد على الروتين والأعراف!
عندما كان في معهد العلوم السياسية، قادته الأقدار إلى محيط الفيلسوف بول ريكور، فتحولت حالة العلاقة العرضية بين الطالب والفيلسوف على يد حملة ماكرون، إلى إرهاصات تكوين فلسفي صلب عند مرشحهم! وزادوا؛ بأن المرشح الشاب كان يحلم بأن يصبح كاتبا، فقد طرق باب الكتابة مبكرا ونظم القصائد وألف الروايات.. ولكن لم ير أحد شيئا من هذا الانتاج الغزير!
بعد تخرجه عام 2004 من المدرسة الوطنية للادارة، عمل فورا في بنك روتشيلد العالمي، وتم انتدابه مرارا إلى بنك باريس الوطني، وصعد بسرعة لافتة في عالم المصارف والمال، التحق خلالها بالحزب الاشتراكي الفرنسي.
عام 2012، دخل جاك أتالي -المثقف المعروف والمستشار فوق العادة للرئيس الأسبق ميتران وأهم وجوه اللوبي اليهودي في فرنسا- إلى مكتب فرانسوا هولاند، وعرّف الأخير على الشاب الصاعد ماكرون، فتم تعيينه على الفور نائبا للأمين العام لرئاسة الجمهورية، ثم ما لبث أن أصبح مستشارا اقتصاديا للرئيس، وخلال عام، تمت تسميته وزيرا للاقتصاد الرقمي في حكومة فالس، التي غادرها عام 2016، وأسس حركته “إلى الأمام”، وأفصح عن نيته بمقارعة الكبار في الترشح للرئاسيات.
في البداية، فإن هذا المغمور، قليل الخبرة السياسية لم يلفت انتباه الكثيرين، ثم بدأت آلة إعلامية ومالية ضخمة تعبد طريقة وترسم صورته كما يشتهي أن يراه فرنسيو المدن المثقفين الذي عانوا من الأزمات المتلاحقة والتناطح بين قطبي المشهد السياسي الفرنسي، بين يسار تحريفي مضلل، ويمين جمهوري عقيم، وبنيت خطوط الحملة حول الطموح غير المحدود للمرشح الديناميكي ومهاراته الشخصية.
مرشح قادم من اليسار، ولكنه لم يصطدم يوما بالقوى الغنية، بل صعد على حبالها، فالتفت حوله شبكة قوية من البنوك وشركات التأمين الذين وجدوا اللحظة سانحة دوليا ومحليا للقفز مباشرة إلى السلطة عبر أذرع العولمة ووجدوا في ماكرون ضالتهم الموعودة، وجعلوا من رواية صعوده السريع مصدرا لقوته، فهم مع تمجيد الانجاز الفردي ومع تحطيم الاحزاب السياسية والنقابات العمالية وترك العامل يواجه وحيدا رب العمل، وإلى هدم المعايير الوطنية المكتسبة في أنظمة التقاعد وقوانين العمل، وماكرون يعمل من أجل ذلك.
لتمويل حملته، نجح ماكرون بتحريك 13 مليون يورو من التبرعات في وقت قياسي، ووقف خلفه مدير سابق لأكبر البنوك الفرنسية.. فتح أمامه أوسع العلاقات العامة، وأهم الممولين، ثم وُضع تحت رعاية أستاذ أوبرالي، يدربه على الإلقاء ويلقنه جملا أدبية قوية.
ادعى بأنه يشن حربا على الشعبوية اليمينية بينما هو في الواقع يتبنى شعبوية مواربة.. يعد بتطبيق النمط الاسكندنافي الذي يجمع بين الليبرالية الاقتصادية ودولة الرعاية المرنة، بينما يعمل في الواقع على توليف العولمة السياسية لتلائم العولمة الاقتصادية وتأبيد تسيد الوسط الليبرالي. وفي وقت يدعو فيه لمجتمع ديناميكي بإعطاء دور أكبر للشباب والمرأة لاستمالة ناخبين من اليسار واليمين، نراه يطرح نفسه كماركة تجارية تقارب “ملكية جمهورية”!
يواجه الرئيس الجديد حاليا الاستحقاق التشريعي الهام، فهو يحتاج إلى حضور قوي في البرلمان حتى يمرر سياساته، ولكنه يواجه أيضا معضلة التحالفات، وتوترات اجتماعية واسعة وقوية تنتظره أمام باب الاليزيه.
فهل ما زال في حوزة الساحر ماكرون أوراق مخبأة؟

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى