ماركس الإنساني/ د.توفيق شومر
د. توفيق شومر – أستاذ مشارك – قسم الفلسفة الجامعة الأردنية
“لم يفعل الفلاسفة إلى اليوم إلا تفسير العالم، المهمة الأساسية هي تغييره” كارل ماركس
أراد لنا آلتوسير، ومعه الكثير من الماركسيين، أن ننظر إلى فكر ماركس على أنه ينقسم إلى مرحلتين، مرحلة الشباب، ومرحلة النضج، ويقول أن هناك “قطيعة معرفية” بين المرحلتين تجعل مرحلة الشباب لا دخل لها بما آلت إليه أفكار ماركس. على الرغم من أنني كنت من هؤلاء لردح من الزمن إلا أنني اليوم أرفض هذا التحليل لفكر ماركس. فالتغيير الثوري والفعل الثوري بالنسبة لماركس هو عينه الفعل الإنساني. فالإنسان لا بد أن ينظر إليه على أنه جزء من الواقع الموضوعي ولكنه الجزء الفاعل في هذا الواقع وبالتالي هو يتأثر “بالظروف والتربية والبيئة” ولكن هذا التأثر ليس تأثر ميكانيكي، بل إن الإنسان يؤثر أيضا في هذه الظروف. وبالتالي لا يكفي أن نحلل الواقع الاقتصادي الاجتماعي الذي أنتج فكرة معينة ولكن لا بد أن ننظر إلى الفاعلية الإنسانية المرافقة وما يمكن لهذه الفاعلية أن تؤثر في الواقع الإقتصادي الاجتماعي.
تغيير العالم ليس فعلًا ميكانيكيًا حتميًا، بل هو فاعلية إنسانية واعية منظمة، هي التحام النظري مع العملي، وبالتالي ما لم نلتحم بالواقع ونعي تطورات الواقع وتأثير الإنسان (بمختلف مشاربه الفكرية) على هذا الواقع، فلن يكون بمقدور الثوري أن يؤثر بالفعل في هذا الواقع. نحن اليوم نعيش مرحلة فقدت المفاهيم الإنسانية العالية مكانتها، فبالرغم من كل ما يقال عن “حقوق الإنسان” فإن الفعل في الواقع أبعد ما يكون عن هذه الحقوق. وعليه قد يكون من المهم اليوم توضيح العلاقة الثورية بين الفعل الثوري للإنسان مع إعلاء الفهم الثوري للمفاهيم الإنسانية.
يقوم الكثير من المفكرين بنقد بعض الأفكار على أنها “أفكار متخلفة” أو أنها “أفكار من العهد البائد”، فيقال مثلاً “أن الأفكار الدينية السائدة اليوم تعود إلى الماضي وأن أصحابها يعيشون في الماضي”، ولكن هذه النظرة لما يحدث في الواقع اليوم هي التي تجعل من “البرامج الثورية” المقترحة على أساس هذه النظرة برامج منفصلة عن الواقع ولا يمكنها من حيث المبدأ أن تؤثر في الواقع. فما يحدث في فضاء الفكر اليوم يجب أن يتم التفكير به بإدراك كيف يتم إعادة إنتاج الماضي في الحاضر. وإعادة الإنتاج هذه ليست عودة للعيش في الماضي ولكنها نتاج للحاضر وبالتالي فإن التعامل معها لا بد أن يكون في الحاضر وليس في الهجوم على الماضي.
إن الأفكار المتطرفة والإرهابية التي تطرح اليوم هي نتاج الفاعلية الإنسانية من خلال نمط الانتاج المسيطر اليوم ملتحمة مع إعادة تأويل للنص الديني، وهنا فإن الفاعلية الإنسانية المؤثرة في المنتج النهائي هي فاعلية متشابكة بين فعل واعٍ للطبقة المسيطرة (محلياً وعالمياً) وفعلٍ آخر من قبل من يعتقد أنه يعيد إحياء الماضي في الحاضر. وبالتالي فإن ما يحدث كنتاج لتفاعل هذا الفكر مع الواقع يلعب في مصلحة الإمبريالية العالمية لأن هذه الإمبريالية قد ساهمت في إنتاجه بالفعل.
الفعل الثوري المقابل لا بد أن يكون بوعي هذه العملية المتداخلة والمعقدة التي تنتج مجموعات يعتقد أنها تعيش بالماضي ولكنها بالفعل تخدم (من حيث تدري أو لا تدري) مصالح الإمبريالية وديمومة سيطرتها. وبالتالي فإن البرامج الثورية للقوى المناهضة للإمبريالية لا بد أن تتركز على الهجوم على عملية تشويه الوعي السائد اليوم وعلى الفاعلية اللاإنسانية التي تقوم بها الإمبريالية بمختلف أشكالها: أي على الشكل السخيف الذي تقدمه هذه الإمبريالية ل”حقوق الإنسان” وعلى المنتجات الفكرية التي يتم تسويقها لتشويه الواقع وتعمية الرؤى لهذا الواقع بكل أشكالها (الحركات الإرهابية، الفردانية المطلقة، …. ألخ). المطلوب برامج ثورية تركز على كشف هذا التشويه من خلال الهجوم على من ينتج هذا الفكر المشوه اليوم لا من خلال الهجوم على أفكار من الماضي. ولكي أضعها بشكل يمكن فهمه في حالة الفكر الإرهابي فإن الهجوم اليوم يجب أن يكون على التفسيرات الإرهابية والمجموعات الإرهابية والفكر الإرهابي اليوم وليس على ابن تيمية وعلى محمد بن عبد الوهاب. فما يتم التعامل معه اليوم هو ما يتم إنتاجه في حقبة الإمبريالية المتوحشة وليس ما قالاه هذان الشخصان (على أهمية تأثيرهما) في الماضي. أي المهم التعامل مع الحاضر بأدوات الحاضر لا باستحضار الماضي في الحاضر.
إن التأكيد على هذا الفهم يعيدنا إلى ماركس وتأكيده على أن الفاعلية الحسية الإنسانية هي فاعلية ثورية متفاعلة مع الواقع ولأجل تغيير هذا الواقع، فلنُعد التأكيد على إنسانيتنا في مواجهة الفكر والممارسة اللا – إنسانية التي تمثلها الإمبريالية المتوحشة المسيطرة اليوم ووجها الآخر المتمثل بالفكر المتطرف والإرهابي والذي لا ينحصر بمنطقتنا، بل يتمثل أيضا بظهور الأفكار العنصرية والمتطرفة في الكثير من أصقاع الأرض.