ماذا يجري في فرنسا !؟ .. هل نعيش مرحلة تبلور ديمقراطية تشريعية مجتمعية جديدة، تلعب دورا إلى جانب الديمقراطية البرلمانية!؟
إستجاب مئات الآلاف من “السترات الصفراء” ونزلوا يوم الجمعة،17نوفمبر، وإحشدوا في الشوارع والساحات في معظم المدن الفرنسية، إحتجاجا على زيادات ضريبية كبيرة وزيادات أسعار النفط، تقدرها امصادر الموازنة؛ بأربعة مليار يورو.
في اليوم الأول رصدت الصحافة الفرنسية أكثر من ألف نقطة تجمهر وإغلاق الطرق على كل المساحة الفرنسية، ودفعت حركة الإحتجاج هذه قتيل واحد وأكثر من 300 جريح. ثم توالت الحركة وإمتدت أفقيا، لتعم في الأقاليم الفرنسية خارج حدود المركز!!
وحتى يومها الخامس، سجلت الحركة قتيلين و528 جريح، و85 جريحا من رجال الشرطة والدرك، و 280 توقيف.
حالة من الغضب المشترك عمت معظم المدن الفرنسية، أخذت عليها الحكومة والإعلام غياب قيادة موحدة ومعلنة لها، وبعض مظاهر الفوضى والتعديات في بعض مواقعها، وتوقعوا إنتهائها سريعا، إلا إنها قد شكلت حتى الآن ،حدثا مفصليا في التاريخ الفرنسي وعبرت عن حراك سياسي أصيل متراكم ومتجذر في المجتمع الفرنسي كونه يعني قضية جماعية تتعلق برفع الضرائب على المحروقات، الأمر الذي يعني إضعاف القدرة الشرائية للمواطنين، ومس شرائح عريضة باتت تتذوق الفقر، ودفعها للتنازل عن حاجات ضرورية في معيشتهم اليومية.
قوة هذه الحركة تتأتى من إنتشارها الواسع وقدرتها على نشر عدوى الإنتفاض على سياسات ماكرون وحكومته الإقتصادية والإجتماعية، وتتهمه بمحاباة الأثرياء ورأس المال، وتسارع الخصخصة، وزيادة معاناة الطبقات الإجتماعية الأدنى.
إحتجاجات “السترات الصفراء”، تكشف مدى تغلغل الفقر في المجتمع الفرنسي، وتوسع الهوة بين الطبقات، مع العلم بأن النسبة الأكبر لمن يتظاهر في الشارع الآن، هم من ناخبي الرئيس، والذي تراجعت شعبيتة إلى٣٠%، وهي نسبة غير مسبوقة!
إدامة الحركة وتجذرها، يدفعنا إلى أن ننظر إلى ما هو أبعد من وجود أناس على الحواجز والطرقات وأمام المراكز التجارية والصناعية الهامة، لنرى ما يجري في داخلها، والنشاط اليومي المتعدد؛ من إغلاق للطرق، وإقامة الحواجز، إلى إمتداد الحياة في صفوف المحتجين، والوقت الذي يقضيه هؤلاء معا لتحضير برامجهم وحواراتهم وشرح مواقفهم بينيا ومع الشارع.
في وقت فرضت فيه مجموعة من العوامل، إضعاف الحياة الجماعية داخل المجتمع الفرنسي، وغلبت الفردية والعزلة والأنانية، فجاءت الحركة لتفعل الكثير في توطيد عرى التواصل ورفع قيمة التضامن.
نحن نتحدث هنا عن نضال شعبي، لا ينحصر بمؤسسة أو مصنع أو نشاط مهني محدد، بل هو تبشير بنظرية الدخول في عصرالشعوب.. الشعب كموضوع تاريخي وصانع لهذا التاريخ.
بالتأكيد لا يشارك كل الشعب في الحركة بنفس الدرجة والحماس، ولكن في الجوهرهي حركة أفقية يتبادل فيها الناس الأدوار؛ الطبقة الوسطى بشرائحها، والعمال، والمعطلين، والمتقاعدين والشباب.. هم كل الفئات الفاعلة في المجتمع.
هذه حركة متجذرة، وتعبر عن حالة تظهر للمرة الأولى؛ وتتمثل في نقاش موازنة الدولة في الشارع والميدان، في ذات الوقت الذي يتم فيه النقاش في مجلس الشيوخ والجمعية العمومية.. حالة تضيف إلى الديمقراطية البرلمانية ، ديمقراطية إجتماعية، حالة مواءمة بين السلطة التشريعية والشرعية المجتمعية، تحضر بقوة وتحدث طلاقا مع الأغلبية الحكومية وتأسس لمستقبل مختلف.. كل المشاكل التي تخص معيشة الناس، مطروحة على الحواجز وفي الساحات، وتعبر عن إرتقاء في درجة الوعي وتشكل إرادة جمعية، الشعب الفرنسي يضيف شكل جديد من الديمقراطية المجتمعية المباشرة، ويحاول أن ينتزع لها شرعية كاملة!!
هذا الجزء أول من تغطية الموضوع، في الجزء الثاني، سأعرض لدور الأحزاب والنقابات، ورد فعل الحكومة، والهدف المركزي للحركة، وآفاقها.