«أطلق النار على النساء أولاً» عنوان لكتاب جذبني بشدة في معرض الكتاب، وأنا في الثالثة عشر من العمر. اقتنيته بسرعة، والتهمت صفحاته بشغف وأنا أقرأ عن قصص النساء الثوريات حول العالم واللاتي قمن بأعمال بطولية يعجز عن اجتراحها الكثير من الرجال، ولكن صورة خاصة التصقت في وجداني حتى الآن؛ إنها صورة بطلتنا السمراء ذات العيون الذكية الساحرة، وهي تحتضن بندقيتها كأنها تمسك بطفلتها الصغيرة، ولم يعلق في ذهني سوى السطور التي روت فيها ليلى خالد أحداث عمليات خطف الطائرتين بكل ثقة وإيمان، وكأنها تتحدث عن زيارة صباحية لبعض الصديقات!ولدت بطلتنا من رحم المعاناة، حيث قضت طفولتها في مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في لبنان، هذه النشأة عملت على صقل شخصيتها مبكرا وغرست في روحها معاني النضال ونكران الذات في سبيل تحرير وطن سمعت عنه ولم تع من الحياة فيه شيئا، لكن ظروف الحياة الصعبة والعائلات المحملة بالذكريات الدافئة عن أيام غابرة على تراب فلسطين عملت على حفر حب الوطن في وجدان ليلى خالد الفتي، ذلك ما دفعها للتوجه في بداية صباها إلى معسكرات التدريب للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين. ورغم صغر سنها، فقد رشحت مع زميل لها لتنفيذ عملية خطف طائرة، لأغراض سياسية إعلامية تشكل منحى جديد في النضال التحرري الفلسطيني.
ليلى خالد الصبية الجسورة، ومن خلال أدائها العالي في هذه العملية، خطفت الأنظار من رفيقها سليم العيساوي، ووجهت الاضواء نحو القضية الفلسطينية، لتعمم اسم فلسطين في كل أنحاء العالم. وعلى الرغم من انقسام العالم بين مؤيد ومعارض لأداء هذه الشابة الساحرة وما فعلته، لكن أجمع الكل على قدرتها الفذة وثباتها على مبادئها، حيث استطاعت اخفاء القنابل في طيات ملابسها، وتوجهت بكل ثبات إلى داخل طائرة العال المتجهة من واشنطن إلى تل ابيب في منتصف الطريق من مطار روما. ونجحت في خطف الطائرة واجبار قائدها على الهبوط في مطار دمشق ثم فجرتها برفقة زميليها دون إراقة نقطة دم واحدة.
هذا الانجاز غير المسبوق بجرأته وإحكامه لم يكن كافيا لليلى، فبعد سنة توجهت إلى قادتها راجية اياهم ترشيحها لعملية أخرى، لكن الجواب كان بالنفي القاطع؛ ذلك أن ملامح وجهها المميز بات معروفا وتوزعت صورها على أرجاء العالم ولم يكن من السهل أن تدخل طائرة دون لفت الانتباه إليها. لذلك قررت، وعلى مسؤوليتها الخاصة اجراء عدة عمليات تجميل في عيادة خاصة تحت التخدير الموضعي متحملة الآلام المبرحة لتغيير ملامح وجهها بطريقة تمكنها من اجراء عملية خارجية أخرى.
أمام تصميمها، رضخ قادتها لرغبتها، وأسندوا لها عملية خطف طائرة أخرى مع ثلاثة من رفاقها وذلك بالتزامن مع ثلاث عمليات أخرى تجري في نفس الوقت.
صعدت يومها إلى الطائرة برفقة رفيقها المناضل النيكاراغوي باتريك ارغويلو ، متظاهرين أنهم زوجان من الهندوراس، كانت الطائرة متجهة من فرانكفورت إلى الأراضي المحتلة، حصل خلل في الخطة عندما منع رفيقان آخران من الصعود على نفس الرحلة، وحصلت أخطاء فنية في كفاءة الأسلحة المستعملة، وللأسف لم تنجح العملية حيث تم اغتيال باتريك، وأسرت ليلى خالد لدى سكوتلاند يارد لمدة شهر. استغلت ليلى خالد هذه الفترة لعرض قضيتها وقضية وطنها، حتى تم تحريرها في عملية تبادل رهائن وأسرى اثر عملية اختطاف طائرة أخرى قام بها رفاقها في الجبهة الشعبية، لتختتم بعد ذلك حقبة بطولية في تاريخ النضال الفلسطيني، حيث قررت قيادة الجبهة ضرورة التوقف عن نسق هذه العمليات كونها أدت الهدف المرجو منها، وبات من شأن استمرارها رفع عدد الضحايا وتعاظم إنعكاساتها غير المرغوبة.
والآن وبعد مرور نحو خمسة عقود على عملياتها البطولية في اختطاف الطائرات، ورغم محاولة اغتيالها الفاشلة في بيروت من قبل العدو الصهيوني عام 1971، إلا أن ليلى خالد والتي أصبحت عضوا فاعلا في قيادة الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، يترسخ إيمانها بعدالة قضيتها، تشهد لها ميادين النضال، وتلتصق بقوة بشعبها ،ولا تتوانى يوميا عن خدمة قضيتها بكل ما أوتيت من صلابة وإقتدار، لا يثنيها أي تهديد أو خطر عن تكريس جل حياتها للدفاع عن قضايا اللاجئين وحقهم بالعودة، ونصرة الشعب الفلسطيني، وقضايا التحرر العربي والعالمي.
تقبض ليلى بقوة على بوصلتها الوطنية اليقظة، وتجوب العالم للحفاظ على حضور القضية الفلسطينية في وعي ووجدان الشرفاء، تنقل معاناة الشعب الفلسطيني من سطوة الاحتلال، وتشيع الأمل بالتحرير، وتحلم بالعودة إلى بيتها في حيفا.. حتى غدت أيقونة للنضال الفلسطيني ضد العدو الصهيوني، وسميت بأيقونة التحرر الفلسطيني المتشحة بالكوفية. وتؤمن بأنه لا بد من العودة إلى الوطن الأم مهما عظمت التضحيات وطالت مسيرة التحرير.