لن تحيد بوصلتنا عن الكرامة / وسام الخطيب
لم يكن قد انقضى عام على هزيمة حزيران التي مُنيت بها الجيوش العربية عام 1967، وأسفرت عن احتلال مزيد من الأراضي العربية الفلسطينية والجولان العربي السوري. كانت هزيمة حزيران صفعة لا ينساها المعسكر العربي المعادي للصهيونية، غيّرت الكثير من الموازين وأسست لمرحلة جديدة من مراحل النضال الوطني التحرري للحركة الوطنية الفلسطينية.
بعد أقل من عام، في 21 آذار 1968، على الضفاف الشرقية لنهر الأردن، حيث اختارت مجموعات الفدائيين الفلسطينيين الاحتماء في قرية الكرامة في غور الأردن، اختار جيش العدو الصهيوني أن يشن هجومًا على معقل الفدائيين الجديد بهدف تدمير الروح المعنوية لهم، وتدمير الحياة الاقتصادية في وادي الأردن واحتلال المرتفعات الشرقية فيه.
غاب عن جيش العدو وجود إخوة للفدائيين على مقربة منهم، سيهبّوا لنصرتهم، وكان أنْ دارت رحى المعركة بين كتيبة المدفعية في الجيش العربي الأردني والفدائيين الفلسطينيين من جهة، والجيش الصهيوني من جهة أخرى، في القرية التي لها من اسمها نصيب، وأوقعت 250 قتيلًأ في صفوف جيش العدو، و450 جريحًا، وأسفرت عن تدمير 88 آلية، منها: 18 ناقلة، و24 سيارة مسلحة، و19 سيارة شحن، وإسقاط طائرة.
بالإضافة إلى رفع الروح المعنوية العربية، قلبت معركة الكرامة الطاولة على رأس الكيان الصهيوني، وكانت نقطة تحول في مسار الحركتين الوطنيتين الأردنية والفلسطينية.
عززت معركة الكرامة العلاقة الكفاحية بين الحركة الوطنية الأردنية والحركة الوطنية الفلسطينية من جهة، وبين الشعبين الأردني والقلسطيني من جهة أخرى، وأثبتت للعدو قبل الصديق أن مهام الحركة الوطنية الفلسطينية لا تنفصل عن مهام الحركة الوطنية الأردنية، أو العكس. كانت معركة الكرامة تأكيدًا على وحدة المصير التي عمّدتها وحدة الدم في مواجهة العدو الصهيوني، وأعادت النسيج الشعبي للمرحلة التاريخية لما قبل تكوين الدولة الأردنية بداية العشرينات من القرن الماضي.
لم يَهبّ القائد مشهور حديثة الجازي وكتيبته لنصرة إخوتهم الفدائيين الفلسطينيين، قبل 50 عام، إلا لفهمهم وإدراكهم أن العدو الصهيوني هو العدو الرئيسي، ليس فقط لفلسطين، بل أيضًا للأردن والأمة العربية. قدّمت كتيبة المدفعية في الجيش العربي الأردني حينها أنبل دروس وحدة الصف في مواجهة العدو الواحد، وسطّرت أروع دروس التضحية والإخاء وكان اختلاط دماء شهداء الجيش العربي الأردني وشهداء الثورة الفلسطينية عنوان الكرامة.
يأتي اليوبيل الذهبي لذكرى معركة الكرامة لتضع الأردنيين والفلسطينيين على المحكّ مرة أخرى، إذ تسعى الإدارة الأمريكية لتنفيذ ما يسمى عُرفاً باسم “صفقة القرن”، بالتحالف مع العدو الصهيوني بالتأكيد، لتصفية القضية الفلسطينية، من خلال ضم القدس المحتلة كاملة إلى الكيان الصهيوني وإلغاء حق العودة.. كل ذلك على مرأى ومسمع الجامعة العربية التي لا تهزّ بياناتها الاستنكارية بندًا واحدًا من تلك الصفقة، وبضغطٍ من رجعيات عربية من خلف الكواليس على الأردن للقبول بها؛ تجدر الإشارة هنا أن خبراء وسياسيون يرون أن الأردن الرسمي سيقبل ما يقبل به الفلسطينيون. أما عن الموقف الفلسطيني الرسمي، حدّث ولا حرج، فيمكن اختصاره باستجداء للدولارات المُغمّسة بالنفط الخليجي.
بعد 50 عامًا، تهبّ رياح الكرامة لتُذكّر الأردنيين والفلسطينيين أنّ عليهم أنْ يتسلّحوا بعقيدة الكرامة وثقافة المقاومة لمواجهة ثقافة الارتزاق والتبعية والارتهان للأمريكي، للتأكيد على خيار المقاومة الذي تبنّاه شهداء الكرامة البواسل، لا خيار السلام الوهمي. لا خيار إلا خيار الكرامة.. يدًا بيد يُوجّه الأردنيون والفلسطينيون صفعة القرن للإدارتين الأمريكية والصهيونية ليتصدّوا لـ”صفقة القرن” وكافة مشاريع ومحاولات تصفية القضية الفلسطينية.
قرأتُ مرة أن أحد الوزراء الصهاينة قال بعد معركة الكرامة: “من يمدّ يده إلى عش الدبابير لا بد له أن يلدغ”، لم يتسنى لي التأكد من صحة هذا القول، ربما لأنني على يقين أن العدو الصهيوني تلقى لدغة لن ينساها في ذلك اليوم إذ مرّغ المقاومون الأحرار أنفه بالتراب، تمامًا كما يقيني أن شعبًا حرًا كريمًا تنفّس ريح النصر يومًا لن يرتضي غير الكرامة.
في ذكرى كسر قاعدة “الجيش الذي لا يهزم”، المجد لشهداء الجيش العربي الأردني الأحرار، المجد لشهداء الثورة الفلسطينية، المجد لشهداء أمتنا العربية.. عاش الأردن حرًا كريمًا ذو سيادة. عاشت فلسطين حرة عربية.