أخبار محلية

لماذا يفشل نظامنا السياسي في مواجهة التحديات الداخلية والخارجية؟!

في مواجهة قرار ترامب الاعتراف بالقدس عاصمة لـ”إسرائيل” كان من الطبيعي أن تتصاعد ردود الأفعال على المستويين الشعبي والرسمي الاردني، لما للقدس وفلسطين من مكانة في قلوب الأردنيين والعرب على السواء، ولما للقرار من ارتدادات خطيرة على المشروع الوطني الفلسطيني التحرري، وعلى الكيان الأردني ومكانة الإشراف الهاشمي على المقدسات الإسلامية والمسيحية في المدينة. ورغم أن الموقف الاردني قد جاء صريحاً، إلا أن أداء الحكومة قد بدا مرتبكا وقاصراً، وأقل بكثير من مستوى التحدي وبدون ثقل سياسي مقنع، يجر خلفه أسبال الازمات الداخلية المالية والاقتصادية والسياسية المتفاقمة.مجلس النواب لم يكن بأفضل حالا، وغرد منفصلًا عن الواقع الداخلي والخارجي على السواء، وعجز عن تقديم أي تصور مؤسسي متماسك، وباستثناء بعض المبادرات الإرتجالية لرئيس المجلس، فإننا لم نشهد طوال فترة الحراك، قيام المجلس كمؤسسة، بعقد أي جلسة نقاش سياسية عامة حول الموضوع، في حين تُركت المبادرة بيد الملك في محاولة لتعويض العجز الحكومي والبرلماني الفاضح في هذا الملف!
لقد جاء تحدي القدس الأخير، بينما تعيش البلاد أزمة ثقة حادة بين الحكومة والمجتمع، وسط خلاف كبير على تحديد الرؤية والأولويات، وسخط شعبي متصاعد، بينما يتمأسس الفساد ويطغى على الصورة، وتمعن الحكومة بسياسة معادية للفقراء المتزايدين في عددهم وبقاع تواجدهم، أدت إلى تتابع لموجات الغلاء، وتزايد نسب البطالة وخاصة في فئة الشباب، حيث فاقت نسبتهم الـ 40% للفئة العمرية من 15 وإلى 24 عام، حسب أرقام الحكومة.
بعد ربع قرن ونيف من “التحول الديموقراطي”، لا تزال الحكومات تتمسك بنفس الرؤى والنهج اللذين قادا البلاد إلى الأزمة، وتطرح سياسات، بمجملها لا تحمل أي مشروع مجتمعي، بقدر ما هي استراتجية للهيمنة الدائمة على السلطة. وهكذا قدمت الحكومات المتعاقبة الديمقراطية “التمثيلية الشكلية” بديلا عن الديمقراطية التشاركية.. هي “تمنح” المجتمع انتخابات عامة حسب مواصفات تشريعية تتحكم بها مسبقاً، لتبيع المواطن وهماً بأنه يشارك في القرار ويتساوى أفقياً مع السلطة التنفيذية، ولكن سرعان ما تسلبه هذا المكسب الشكلي، وتقضم بالتدريج وضعه التمثيلي الجديد، قبل أن تلقيه ونوابه خارج التأثير والقرار. ثم تمعن الحكومة في تشويه الوعي الوطني الجمعي ليتقبل المجتمع قدرية وجود طبقة مسيطرة وأخرى يجب أن تكون مسيطر عليها، عبر بث مشاعر الاستكانة للتهميش والاقصاء، ولسان حالها يقول: ألم نسمح لكم بخلق أدوات تمثيلكم؟ إذن اتركونا نقود وأنتم تطيعون.. حالة من التجريف السياسي الشامل والسلطوية المستدامة.
هذه الطبقة السياسية تفرض على الجميع صيغة المركز الذي يحتكر مراقبة كل شيء ويمتلك كل شيء بما فيها المعارضة ومجلس الأمة وأغلب مساحة الرأي العام، وصولا إلى شل المواطن والعمل السياسي، ودفع المعارضة إلى اللهاث خلف فتات الصورة، أو الظهور في فقرة ثانوية من المشهد المسرحي، بدلا من انتزاع دورها بالمشاركة الفاعلة وصناعة المستقبل.
ليس صحيحاً ما يشيعه البعض من أن الاحداث الأخيرة قد دفعت بالمشهد الاردني إلى حالة فريدة من التقارب الشعبي-الرسمي. ما يجري حقيقة هو تقاطع بالمواقف بين الحالة الشعبية والحكومة في موضوعة القدس، ولكنها معزولة بالكامل عن “تشارك” حكومي فعلي مع متطلبات ومصالح الشعب العامة.. هي شكل من الانتقائية الزبائنية تستغل فيها الحكومة حرص المجتمع على الالتفاف حول مصالح الوطن العليا وصونها، لتتحكم بإتجاهات الرأي وتوظفها في مساعيها التكتيكية الآنية. وإلا كيف يمكن لنائب رئيس الوزراء أن يدعو المواطنين إلى التظاهر الاحتجاجي في الشارع ضد قرار ترامب، وهو يعرف بأن حكومته تعمل ما في وسعها كي يكون الرأي العام تحت السيطرة وعاجزا عن التأثير، وإقناع المواطن بأن تحركه عديم الفائدة، وأن العمل السياسي والنقابي غير ضروري، وأن الاحزاب السياسية بدون فائدة علاوة على اتهامها بحمل أجندات أجنبية، وأن المعارضة مخطئة في كل أطروحاتها!؟
كيف يريد هذا الحلف الطبقي الحاكم ومجاميع المصالح والإمتيازات أن ينجح في مسعاه، وهو المعزول عن المجتمع ويفتقر لأي مساندة حزبية أو نقابية وتعوزه حاضنة إجتماعية مسيسة؟ كيف له أن يديم ويطور من حالة الاحتجاج والرفض الجماهيري قبل الدخول الجدي في نقاش مع كل المؤسسات المجتمعية والاستماع إلى رأيها في موضوع مشروع الموازنة المجحفة بحق الناس، والاصلاح الضريبي المنحاز إلى مصالح الاثرياء، واتفاقية الغاز مع العدو الصهيوي ومعاهدة وادي عربة وارتداداتها على مجمل مناحي الحياة؟
متى تعترف الدولة بأخطار العولمة واقتصاد السوق والتبعية الاقتصادية، ومتى تتوقف عن تحميل الطبقات الشعبية خسائر وفساد المتنفذين من بيروقراط وليبراليين؟
لكي نرتقي إلى مستوى التحديات الملحة، يجب قلب هذه المعادلة. سياسات البلد الداخلية والخارجية يجب أن تنطلق من الإرادة الشعبية، من حق المواطن المشاركة لتحديد مستقبله ومصيره. يجب عدم التقرير بأي ملف دون الاستماع إلى أصوات من تعنيهم قضية ملفهم. على السلطة أن تقاسم المعلومة مع المجتمع وليس إخفاؤها، لا موافقة على رأي أو قرار سياسي إذا لم يسبقه نقاش عام، ولا نقاش دون طرح الحيثيات والموجبات، في عصر المعلوماتية وتعميم المعرفة، علينا إبتداع أدوات وآليات مبتكرة لتشكيل الراي العام ومراكز القرار. ما يحدد شرعية وصحة القرارات، هي طريقة ومنهج اتخاذها، بعد التأكد من أن أي قرار لم يؤخذ بناء على مصلحة شخصية أو فئوية أو لوبي ضغط، مع التأكيد بأن دوراً مفصلياً يجب أن يحصل عليه الشباب والمرأة والطبقات المهمشة التي تنزلق للأسف نحو الخوف واليأس والكراهية.
على الصعيد الخارجي، لسنا معنيين بتخرصات البعض بأن الاردن قد بات وحيداً ويعيش عزلة حصرت خياراته وأبعدت عنه اصدقاءه وتحالفاته وحرمته من أوراق قوته، وتدفعه للانحناء أمام العاصفة. لأننا ندرك بأن للأردن علاقات وله مصالح على الصعيد الاقليمي والعربي والعالمي، وما يسميه البعض عزلة، ليست إلا فشلا تراكم نتيجة ضبابية الرؤية وقصور الاداء السياسي للحكومات المتعاقبة. صحيح أن الوضع صعب ومعقد، ولكننا نحتاج إلى مراجعة حقيقية لطبيعة “التحالفات” التي ثبت فشلها، ويكمن الحل في التخلص من التبعية السياسية والاقتصادية، والتحرر من الاتفاقيات والمعاهدات التي قيدت الاردن ورهنت مقوماته وعوامل نموه وتطوره، وفرضت الكيان الصهيوني كطرف ضاغط ومقرر في المنطقة.
لا نطلب حالياً إدارة الظهر بالكامل لبعض دول الخليج المقررة، ولكن لا بد من تحديد طبيعة العلاقات الصحيحة، ومن إحداث استدارة مدروسة توسع من مروحة تحالفات ندية، تصون المصالح الوطنية للأردن وفلسطين، وتعزز من الأمن الداخلي والسيادة الوطنية في الأطر السياسية والاقتصادية والأمنية.
علينا أن ندرك بأن الوضع القائم غير قابل للاستمرار وعلى الدولة أن تكف عن فرض وصايتها على المجتمع، وأن تظهر استعدادها الكافي للمضي قدماً في عملية إصلاحية شاملة على أرضية تشاركية مجتمعية حقيقية، تعيد ترتيب وبناء أسس النظام السياسي على كافة الصعد.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى