لماذا المادية الجدلية؟ بقلم: فايز الشريف
كثيرون هم من توقفوا أمام الفصل التاسع من البرنامج السياسي لحزب الوحدة الشعبية الديمقراطي الأردني والتي جاء فيها أن هذا الحزب “يسترشد بالمنهج المادي الجدلي والاشتراكية العلمية” (ونفس العبارة تكررت في المادة الثالثة من النظام الداخلي للحزب). ولعل أبرز التساؤلات التي تطرح هي عما تعنيه العبارة؟ ولماذا المادية الجدلية؟ ولماذا الاسترشاد بها؟ وماذا يميزها عن غيرها؟ وهل الاسترشاد بها يضيف شيئا لهذا الحزب؟ ولماذا الاشتراكية العلمية؟ وهل تختلف عن غيرها من “الاشتراكيات”؟ وماذا تعني الاشتراكية في جوهرها؟ وهل نحن في مرحلة يمكننا فيه الحديث عن اشتراكية في الوقت الذي سقطت فيه أو أسقطت الاشتراكية في المعسكر الاشتراكي. وهناك عشرات ومئات الأسئلة تنتصب بعد ذلك.
نحن لا نخشى الحوار ما دام هذا الحوار سيؤدي بنا إلى معرفة الحقيقة. ولا نخشى طرح الأسئلة الصعبة والمعقدة والمؤلمة أحياناً، لأن معرفة الحقيقة قد تتطلب عملية جراحية مؤلمة. والحوار والنقاش للوصول إلى الحقيقة هو مبتدأ المعاني الذي يشير لها المنهج الجدلي لدى اليونانيين القدماء، فقد كان سقراط يجوب شوارع أثينا القديمة يحاور عامتها ويناقشهم، بل إن هذا الفيلسوف الكبير قد قدّم حياته على مذبح حقيقة آمن بها، وهي تتعلق بالديمقراطية والحوار والقدرة على استيعاب الآخر.
لا شك أن الحديث عن كون هذا الحزب “يسترشد بالمنهج المادي الجدلي والاشتراكية العلمية” يشكل في حد ذاته إعلاناً صريحاً على أن هذا الحزب يعتبر نفسه جزءاً لا يتجزأ من الاتجاه اليساري سواء على المستوى المحلي أو المستوى العربي أو حتى على الساحة الأممية. ويعتبر الاتجاه اليساري هو المعبر والمدافع الحقيقي عن كل الطبقات الكادحة والمظلومة والمقهورة، ويعتبر الاتجاه اليساري المناضل العنيد ضد كل سياسات القهر والظلم والاستغلال التي يمارسها الرأسمال العالمي وحلفاؤه وعملاؤه المحليين.
وعملية استرشادنا بهذا المنهج لهو إعلان آخر عن أننا لا نعتبره عقيدة جامدة أو مجموعة نصوص نحفظها عن ظهر قلب لنكررها في كل المناسبات، بل هو أداة علمية ثورية لتحليل الواقع وفرز مكوناته، وتتبع خيوطه وكشف علاقاته، ومراقبة مراحل تطوره ومآلاته، ليس من أجل تفسير الواقع فقط مع كل ما لهذا التفسير من أهمية، ولكن أيضاً من أجل تغييره. فهذا المنهج بقدر ما هو أداة علمية متماسكة في التحليل، هو أيضاً أداة ومنهج لممارسة ثورية تجسد التطلعات الإنسانية نحو التحرر والانعتاق، إنه علم الثورة بحق.
والتحرر والانعتاق هما في صلب الاشتراكية العلمية، فالاشتراكية تعني في جوهرها الوصول إلى مجتمع ينتفي فيه كل أنواع استغلال الإنسان لأخيه الإنسان. وقد وصفت هذه الاشتراكية بالعلمية تمييزاً لها عن غيرها من “الاشتراكيات” الطوباوية أو الخيالية. فالاشتراكية العلمية وبناء على تحليل علمي للواقع، قد رسمت معالم الطريق للوصول إلى الهدف، وذلك من خلال تحالف واتحاد عمالي عالمي مع كافة الشعوب المضطهدة والمستغلة، لمواجهة قوى القهر والظلم والاستغلال، لمواجهة الرأسمالية العالمية وحلفائها وأعوانها. وإن الانتصار على هذا الحلف المعادي يمهد الطريق من أجل بناء مجتمع عالمي تذوب فيه الفوارق الطبقية، وينتفي فيه استغلال الإنسان لأخيه الإنسان.
لقد تناولت العديد من الأبحاث الجادة والعلمية مسألة انهيار الاتحاد السوفيتي والمنظومة الاشتراكية. ولقد حلل العلماء والفلاسفة والمناضلين هذه التجربة الإنسانية الغنية بإيجابياتها وسلبياتها، وتناولوا أسباب انهيار هذه التجربة بالتفصيل. ولكن ما يهمنا التأكيد عليه هنا أن هذه التجربة لم يقرأها بالشكل العلمي، ولم يسبر أغوارها الحقيقية، إلاّ من كان يسترشد بالمنهج المادي الجدلي والاشتراكية العلمية. وذلك لأن طبيعة هذا المنهج وهذا الفكر الممارس هو نقدي في الأساس، وهو لا ينتقد الواقع الموضوعي والممارسة فقط، بل أنه لا يخجل ولا يتوانى من أن ينتقد ذاته وفكره من أجل أن يتطور ويتجدد. إنه فكر يساري حزبيّ خلاق جديد ومتجدد، وأداة تربط الفكر بالممارسة الثورية المبدعة، كما وأن انحياز هذا الفكر للعلمية ليس ترفاً وإنما هو حقيقة واقعة.