لآخر المستجدات تابعنا على قناة تلغرام

تابعنا
مقالات

كيف حولت الخصخصة، الوظيفة العمومية العليا إلى مطية لفرسان النيوليبرالية!!

بينما يمر الاردن بحالة من السخط المجتمعي والحراكات المطلبية الواسعة في كل من قطاعي التعليم والصحة، بشكل خاص، تلوذ الحكومة خلف حالة من الانكار والتضليل، فترسل ذراعها الامني، تقمع التحرك المطلبي المستحق للمعلمين، وتمعن في سياسة التسويف والمماطلة للتهرب من استحقاقات المطالب الشعبية.بدون جهد كبير يلحظ المراقب حالة من الانسداد السياسي الكامل، والامعان في قمع الحريات، وسط انعكاس الازمة المركبة التي تعيشها الدولة، على معظم الاصعدة، مع انعدام طرح أي خيارات اقتصادية اجتماعية بديلة، نتيجة امتثال الحكومات التبعي لاملاءات صندوق النقد الدولي، وتبعات معاهدة وادي عربة المشؤومة.
تعترف الطبقة السياسية بفشل سياساتها المتوالية في تحقيق نقلة ملموسة تستجيب للتحديات الملحة، ولكنها رغم ذلك، تعجز عن طرح بدائل إيجابية، وتمعن بالسير على نفس النهج الفاشل الذي أوصلنا إلى هذا الواقع المعتم.
ما سبب هذا التنكر للمطالبات الشعبية، وهذه العزلة التي تضع الحكومة فيها نفسها؟ لماذا تستبدل لغة الحوار، بالهراوة الغليظة ضد مؤسسات المجتمع المدني ونشطاء الوطن؟ لماذا ترفض الحكومة المشاركة الشعبية وتوصد أبواب الحوار مع الاحزاب والنقابات؟
ما هي التبدلات التي حصلت على البنى الفوقية في البلاد وقادتنا إلى هذا الحال؟ أين حصل التغيير في المحتوى الاجتماعي للحلف الطبقي الحاكم والعوامل التي أسهمت في بلورة هذا الحلف منذ إعلان ما سمي ببرنامج التصحيح الاقتصادي، والذي رافق انطلاق سياسة العولمة النيوليبرالية في المركز الرأسمالي العالمي؟
ثلاثة عقود من التحولات البنيوية في هياكل الحكم، تشكل من خلالها وبشكل ممنهج ما يشبه «المحفل السلطوي» بعضوية نخب منتقاة، بات يمسك بقوة بجميع خيوط اللعبة السياسية والاقتصادية، ويمنح ادوارا معلومة لرؤساء حكومات، ووزراء، ووظائف عليا في جميع المستويات.
نقطة البدء ترسخت عبر اتباع سياسة خصخصة زبائنية منفلتة لأهم حوامل القطاع العام، تحول من خلالها أصحاب الوظائف العليا إلى بائعين لمقدرات الوطن، ومن خدمة المصالح العامة تحول نادي الحكم إلى خدمة مصالحه الخاصة.
تلاشى دور البيروقراط، أو تم التخلص منه بشكل متدرج. لم يعد هناك وجهات نظر تُطرح في نادي الحكم، أو تنازع على قرارات. غابت الرؤية الوطنية تجاه العمل العام، وانتفت أي تعددية في الفهم والتنفيذ. حالة النظام التي وسمت الدولة في السبعينات والثمانيات، أصبحت «معيقة» وغير مرغوبة، وحل مكانها شكل سلطوي جديد مقولب، أحادي الرؤية يتكيف مع شروط التبعية ومتطلبات العولمة والخصخصة.
حصل نوع من اختطاف السلطة، وسيطرة على المؤسسة التنفيذية والتشريعية، والحاقها بالوظيفة العليا. ما سمي بوزراء الديجتال.. نجباء النيوليبرالية، سواء من ترقى في كنف الوظيفة العامة، أو أُحضر من القطاع المصرفي والمالي الخاص، قُدمت لهم السلطة على طبق من ذهب في سبيل التسريع في «إنجاز» الخصخصة، وأصبحت الفرصة متاحة لتحويل فرسان بيع القطاع العام، إلى مديرين ورؤساء وأعضاء مجالس ادارة في الشركات التي تم خصخصتها، وعلى رأس الهيئات المستقلة التي لُفقت للتنفيع والمحسوبية، وتبديد مقومات الوطن.. أو في البنوك والبيوت المالية التي رعت بيوعات القطاع العام، وأصبح من الاعتيادي أن ترى بأن دولته بعد مغادرة الحكومة، قد اصبح رئيس مجلس ادارة لبنك، ومعاليه مديرا لشركة وطنية تمت خصخصتها للتو، أو مالكا لشركة تأمين!!
في مرحلة متأخرة، بدأنا نشهد عودة انتقال من إدارة المؤسسة المالية في القطاع الخاص- بما فيها البنوك والمؤسسات المالية الدولية- إلى الوظيفة العامة العليا بكل يسر واعتيادية، في عملية تشبه حركة الباب الدوار المقام على مداخل الفنادق الكبرى، ولكن هذه المرة تم نصب هذا الباب على الدوار الرابع!
طبقة من الرأسماليين المستبدين استُحضروا ليسيطروا على السلطة بحيث أننا قد وصلنا إلى حالة لم يعد فيها فروقات هامة بين الوظيفة العمومية العليا، والمؤسسة المالية والتجارية في القطاع الخاص، ولم يعد مسغربا اسقاط الحائط بين الوظيفة العليا العمومية والخاصة، وقد أصبحت هذه الظاهرة تشكل كنتيجة وغاية للعقيدة النيولبيرالية بشكلها المعولم، ومن خلالها تصبح عملية اختيار الموظف العالي مغرضة، وذات دلالات بائنة.
من الطبيعي أن يعرف الموظف العالي العمومي شكل العمل في القطاع الخاص، ولكن في حكومات البزنس، أصبح من مهام هذا الموظف «التشبيك» بين العمومي والخاص، لينتقل تأثير الخاص وراس ماله إلى الوظيفة العمومية، وينقل معه الفساد وتلوث الدولة، وضرب القيم المجتمعية، ويحول كبار الموظفين إلى رجال أعمال في خدمة رأس المال، ولا يعود هناك من فرق إن جاء الموظف «العالي» من بيئة يمينية أو يسارية، أو من الاجهزة العسكرية أوالأمنية، أو حتى من بقايا الاقطاع.
يستعمر المال الدولة، وتجري عملية نهب وتفقير، يتفاقم التضخم ونسب البطالة، ويجري التلاعب بقوانين التقاعد، ويتم تفكيك قانون العمل، وتقفزالمديونية الى أرقام قاتلة، ويتراجع مستوى الخدمات في القطاع الصحي والتعليمي العام، ويتوتر المجتمع. الكل يخرج خاسرا عدى ارباب البنوك وشركات التأمين، وطغمة الكمبرادور والمقاولين الفاسدين والنخب السلطوية. يحدث نهب حقيقي لمدخرات وصناديق توفير المواطنين المتواضعة، سواء من خلال التضخم المتصاعد، أوعبر التلاعب بالفوائد البنكية.
لا يعود هناك فرصة للخلق والابداع في السياسة العامة للدولة، ولا مجال للتشاركية أو الحوار مع مؤسسات المجتمع المدني، وتغيب السياسة الاقتصادية، لتحل مكانها ادارة شؤون المال، ويتبوأ المنصب من يبدي الاستعداد للسير بدون تلكؤ نحو النيوليبرالية.
لمزيد من التضليل، هذه النخب الطفيلية المصابة بداء الجشع وتكديس الثروة، لا تعلن معاداتها للديموقراطية، ولكنها لا تريد من الديموقراطية إعاقتها عن تنفيذ سياساتها؟ «ما حاجتها إلى الديموقراطية طالما أنها تدرك كل ماذا تفعله، ومطلوب منها أن تفعله بسرعة»!
وعندما تُتخم كل المناص الرسمية، وشبه الرسمية، يتم استجلاب فئة المستشارين والخبراء، وفي الغالب يرسل هؤلاء إلى البنوك والشركات التي تم خصخصتها، حيث ينجح مستشارونا في تقسيم المهام المصرفية، بين المهام الاعتيادية التجارية للبنك من ناحية، وتشكيل غطاء لوظيفة المضاربات المالية التي تسعد إدارات البنوك، من ناحية أخرى. وغالبا ما هيأت هذه الوظيفة لمستشار الحكومة فرصة
لتبوأ منصبا رفيعاً في مجالس ادارة المؤسسة التي تعرف على موظفيها وخبر ألاعيب اداراتها.
السؤال الجوهري الآن: من يدفع ثمن هذا النزف والتفتيت الذي أصاب المجتمع جراء سياسات هذا «المحفل السلطوي»؟.
1- لقد أدى انعدام العدالة الاجتماعية، والإمعان في سياسة التجريف الثقافي والسياسي، إلى تمزيق النسيج المجتمعي، وتدني القيم السائدة، وسيادة العقلية الليبرالية الزبائنية، فغابت مراكز البحث والدراسات الجدية، ولم يعد هناك نقاش في المسائل الحيوية، وطغى التفكير الاحادي.
2- شكلت أوليغارشية مستبدة؛ «حكم أقلية» إستبدادي، يتولى من خلاله أرباب العمل والبنزنس السلطة السياسي، وجرى تدوير لمقاعد الحكومات التي تفرض بدون انتخابات، وتتوالد عبر تزاوج هجين بين الليبرالية المتوحشة والهراوة الأمنية التي أصبحت تحتل موقعا مؤثرا في السلطة التنفيذية، بتنا على أثرها نعيش حالة من الانقلاب السلطوي الدائم.
3- تغول الخصخصة حتى على أهم مفاتيح الوظائف العامة، وإعادة تدويرها لصالح الموظف العالي، وأبنائه وأصهاره، وشبكاته المصلحية، الأمر الذي بات يطرح بقوة مشاكل أخلاقية وجزائية ودستورية جدية، كشفت عن ضعف قانون العقوبات في معالجة هذه الحركات المشبوهة.
4- أفقدت المواطن والقوى السياسية، الثقة بالنظام البرلماني السائد وبالثقافة الديموقراطية على السواء، لقناعة بأن الانتخابات لن تغير شيئاً بالبنى الفوقية بعد أن تداخل فيها العام بالشركات، والأمني بالمدني، وانحسر فيها هامش الديموقراطية الكسيح وغير الكفؤ أصلا، في مناخات ملوثة، يتحكم فيها السوق بالمنابر والاعلام.
5- التسبب بأزمات اجتماعية ومالية متعاقبة، بعد أن أصبحت عوائد الدولة تعتمد بشكل شبه كلي على عوائد الضرائب وخاصة ضريبة المبيعات، والقروض، وعوائد فروقات الطاقة، وبروز فجوة فاحشة بين دخول أرباب الوظيفة العمومية العليا، وأغلبية الموظفين، وحتى بروز انتقائية داخل الانتقائية الوظيفية نفسها،
والسؤال المطروح حاليا، كيف نفكك عناصرهذا ا»لمحفل السلطوي» ،ونجعل من الوظيفة العليا للدولة، ممثلة حقاً لصورة المجتمع ؟ .. بالأحرى كيف ننقذ الدولة من السقوط والمجتمع من الانهيار.
مع تنامي الوعي السياسي الإجتماعي بين شرائح الفئات المتضررة، هل أصبحت الفرصة مهيئة لتشكل الكتلة المجتمعية القادرة على فرض ميزان قوى يفضي إلى التغيير!؟

بواسطة
د. موسى العزب
اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى