كيف تكتب الرواية؟ عمار أحمد الشقيري
نادراً ما يكشفُ روائيٌ تفاصيلَ مختبره وأساتذته السرييّن في الكتابة، رغم أن الكثير حاول الكتابة داخل سيرته أو خارجها ليشرح كيف يكتب، على أن المعظم كان يتحايل بالإجابة، ولعل الإجابة الأكثر ظرافةً في هذا الشأن كانت من قبل السيميائيّ والروائيّ الإيطالي أمبيرتو إيكو، حين أجاب على سؤالٍ أحدهم “كيف تكتب رواية سيد إيكو”؟، فأجاب متهكماً: من اليسار إلى اليمين
نفس السؤال واجهه الروائي الكولومبي غابرييل غارسيّا ماركيز أكثر من مرة من قبل صحفيين وكتّاب شباب، دفعه لكتابة مقال في صحيفة الاسبكتادور يعرض فيه سيرة السؤال الأصعب الذي يمكن أن يواجه الروائيّ، غير أن غابو- كما يُحب أن يسموه هناك في القارة الجنوبية- فصّل عن حِيله وعن معلميه السريين على مدى قرن ونصف أمضاها وراء آلته الكاتبة الشهيرة.
وإذا ما تركنا الاعترافات العامة لماركيز في تعلّمه فن الحكي من جدته ترانكلينا إجويران كوتيس، وكتاب ألف ليلة وليلة الذي وجده في بيت جده العقيد نيكولاس ميخيا ماركيز، فإن شخصين أثرّا على طريقته في الكتابة في بداية مشواره الأدبيّ على نحو استثنائيّ، وهما بالمصادفة ليسا روائييّن، أحدهما كان يعمل ككاتب للمسلسلات الإذاعية يُدعى فليكس ب كاخينير، التقاه أيام عمله كمراسل لوكالة الأنباء اللاتينية في كوبا، حيث كان ماركيز يحمل على الدوام نسخة من مخطوط رواية “المنزل” وهو المخطوط الذي يعتبر بمثابة مشتل خرجت منه عدة روايات كان أهمها مائة عام من العزلة، لم ينهِ كاخينير الفصل الأول من المخطوط الذي عرضه عليه فتى آراكاتاكا النحيل حين أعاده له ناصحاً وقد وضع يده على المشكلة الرئيسية بأن عليه لتجنيب القارئ الملل أن لا يطيل الأوصاف في الرواية، وأن يضع حدثاً في كل فقرة “ذبابة تطير، “كوب يتهشم” وختم كاتب المسلسلات الإذاعية ليلتها نصائحه بواحدة خارجة من مَعمَله كأحد أكثر العارفين بجذب المتلقين للحكاية: إن الناس تحب أن تسمع الحكايات في نهاية الأمر.
المعلم الثاني كان المكتبيّ الكتلاني العجوز والمقيم في مدينة بارنكيّا وعرّاب الكتّاب الشباب حينها الدون رامون، وكانت تلك المرحلة الأكثر حرجاً في أسلوب كتابة الرواية عند ماركيز، حين كان يعمل صحفياً ناشئاً، ظل متردداً حتى تجرأ و”باستفزاز طفولي” يقول، وعرض عيله مخطوط روايته “مع ما حصر له من التصحيح والأخطاء“.
قرأ رامون بداية العمل بتأنٍ، ووجه نصيحتين مثل حد السيف، حيث كانت الأولى تتعلق بالزمن داخل الرواية، وتفصيلات تقنية دقيقة، بالإضافة إلى تركيزه على ألّا يكون اسم المدنية في الرواية بارنكيا- ستتحول فيما بعد إلى ماكوندو- وانتهى من نصيحته الأولى ساخراً: أو تصرف كفلاح وانتظر أن يسقط الاسم عليك من السماء، على أن النصيحة الثانية والتي يعترف ماركيز أنها ظلت عالقة في ذهنه بعد ذلك طويلاً، هي الكلمات التي قالها رامون وهو يودعه: أشكر احترامك لي، وسأكافئك عليه بنصيحة، لا تعرض على أحد مسودة ما زلت تكتبها.