كوفيد-19 أو تفكيك هوية القاتل المجهري!
شن الفيروس هجومه كإعصار مجهري جامح يجتاح الكرة الأرضة، ويضرب بشكل رئيسي التجمعات المدنية الصناعية المكتظة.. تلك المدن الجشعة الـتي وقفت تتفرج على إمتداد الحرائق من الأمازون إلى استراليا، ولم تفعل شيئا أمام عنف الزلازل والعواصف، وسطوة الفياضانات. عواصم تدمير البيئة، وإفتعال الحروب، وفرض الحصارات، وتناسل الأزمات المالية، والتي واجهت بصلف مطالب شعوبها بمعالجة الإختلالات الإجتماعية العميقة، وأرسلت الهراوات لقمع الفقراء.
منذ ظهوره، أطلق الفيروس ورشة عمل هائلة من نوع آخر حول العالم، أُطفأت الآلات، تنحت المصانع والمعامل جانبا، توقف هدير ملايين العربات والطائرات، أُغلقت المدارس والمعاهد، توتر السياسيون، وإلتزم حوالي أربعة أخماس سكان الكرة الأرضية في منازلهم. وحدهم الأطباء والأطقم الطبية، واصلوا مواجهة الوباء في المواقع المتقدمة، وإنكب آلاف العلماء والخبراء بحثا عن علاجات ولقاحات لصد القادم الجديد، ووقف العالم بقلق وخوف يرصد الهجوم الوبائي العنيف، ويحاول فكفكة شيفرته والكشف عن هويته.
وحده COVID-19 كان يدرك مساره، ويتحرك بسرعة متجاوزا سور الصين العظيم.. تنهار أمام بطشه كل القلاع والحواجز الطبيعية وتلك التي أقامها البشر في غفلة عن الطبيعة.
أنطلقت الأسئلة الحائرة القلقة: هل الفيروس معدي لهذه الدرجة؟ كيف يصيبنا بالمرض؟ كيف نحمي أنفسنا من شروره؟ هل هو مشابه لغيره من الفيروسات الوبائية؟ كيف يبدو شكلة؟ من أين جاء؟ هل تم تصنيعه في المختبر كما يروج الكثيرون؟
بدأت الصورة تتضح؛ هذا الفيروس ليس كائنا حيا، هو جزيء بروتين (RNA) مغلف بطبقة رقيقة من الدهون تحميه من العوامل الخارجية. وإن كان فتاكا، إلا أنه شديد الهشاشة، ويكفي مسحه بالكحول، أو غسله بالصابون أو أي منظف مشابه، لإذابة طبقته الخارجية وتشتيت جزيء البروتين الذي يتفكك من تلقاء نفسه.
ثم أخذ المشهد يتضح أكثر؛ هذا الغازي المستجد، يتطور ويتشكل، وقد رُصدت منه حوالي 30 سلالة، إنتشرت في العالم، بعضها له مضاعفات قاتلة. وقد تسابق الإعلام بنشر صور للفيروس لا يمكن رصدها بالمجهر العادي، التقطت في معاهد بحثية متقدمة بواسطة مجهر الإليكتروني ماسح، وظهرت صور كوفيد-19 المجهرية الملونة لتسهيل عرضها، وإنتشرت صورة تلك الكرة التي تلتصق بها عشرات الأشواك المنتهية بأكواب شفط صغيرة متعددة، توحي بعدائية الفيروس وقدرته على الإلتصاق بكل إتجاه.. تلك التيجان النافرة التي منحت الفيروس إسمه وإنتمائه لعائلة كبيرة من الفيروسات المفترسة.
رغم تراشق بعض السياسيين من مختلف الإتجهات حول نقطة إنطلاق الفيروسات، إلا أن علماء الوبائيات، في جميع أنحاء العالم لم يتفقوا على الأصل الحقيقي لفيروس كورونا المستجد، الأمر الذي أسبغ مزيدا من الغموض حوله، رغم أن أول إبلاغ عن تفشي الفيروس، قد جاء من سوق للمأكولات البحرية في ووهان في كانون أول الماضي، وترجيح نقله من الحيوان، مع احتمالات تطوره في مكان آخر قبل ظهوره في الصين. وقد بحث علماء إيطاليون فيما إذا كانت حالات الالتهاب الرئوي الحاد والأنفلونزا المسجلة في منطقة لومبارديا الإيطالية خلال الربع الأخير من عام 2019 -والتي بدت أعلى من المعتاد- تعتبر مؤشرا على إنتشار فيروس كورونا المستجد، خارج الصين في وقت أبكر مما كان يعتقد سابقا.
تبقى الجزيئات الفيروسية مستقرة في الظلام وفي البرد الخارجي أو في البرودة الصناعية مثل مكيفات الهواء. وبالتالي، فإن البيئات الجافة والساخنة والمشمسة تعتبر ضارة لبقائه. تزداد عدائية الفيروس في المساحات المحصورة، بينما يبدد من عنفوانه الإنفتاح والتباعد، والتهوية الطبيعية.
لا يخترق الفيروس الجلد الصحي. ولكن إن وصل بحالته العدائية إلى العين أو الأنف أو الفم، يتم إمتصاصه بواسطة خلايا الغشاء المخاطي؛ تتغير شيفرته الوراثية، ويتحول إلى خلايا ممرضة تهاجم الجهاز التنفسي والجهاز الهضمي.
تتردد إتهامات سياسية وإستخباراتية، تروج لنظرية التلاعب بالفيروس أو فبركته في المختبر. من الناحية النظرية، يمكن التلاعب بالفيروس، ولكن كما هو معروف، فإن أي تلاعب يترك على جسد الفيروس خدوشا وندبا وبصمات التصنيع جلية للعين العارفة، فالفيروس، بالنسبة لحجمه الصغير للغاية، هو تشكيل حيوي وهندسي متوازن ومكتمل ورائع، موثق في الجينوم الفردي كجزيء يحمل هوية شخصية مكتملة..
يسبب كوفيد-19، بشكل أساسي حمى عالية، وسعال جاف شديد، ووهن عام وضيق بالتنفس. وصداع، وقد يتطور في نسبة من الحالات إلى إصابة رئوية شديدة قد تنعكس على مختلف الأجهزة، تؤدي إلى الوفاة، كما أن هناك إصابات لا يظهر عليها أعراض، أو تعاني من أعراض خفيفة. عند المصابين صغار السن، غالبا ما تكون الأعراض خفيفة، ويمكن أن تؤدي العدوى إلى فقر الدم، وفقدان حاستي الشم والتذوق،
قد تظهر آثار للفيروس في الجهاز الهضمي والبولي، وينتشر المرض بالعدوى من خلال الاتصال الوثيق مع شخص مصاب، أو من خلال التعرض لمجال سعال أو عطس لشخص مصاب. يمكن أن تستمر فترة الحضانةأحيانا لفترة أطول من 24 يومًا بدلاً من أربعة عشر يوما. كبار السن والأشخاص الذين يعانون من أمراض أيضية مثل داء السكري، وكذلك مرضى إرتفاع التوتر الشرياني غير المتعادل، ومرضى القلب، هم أكثر عرضة للإصابة بالمرض، وإلاختلاطات والوفيات.
أمام عدائية الفيروس غير المرئي، تتكشف لنا عيوب وهشاشة هذا النظام العالمي الذي بني على الجشع والأنانية، وشركات البزنس العابرة للقارات.. أوروبا تتفكك وتتهاوى، شاهدنا الرئيس الصربي يُقبل العلمين الروسي والصيني، بينما الجمهور الإيطالي يصطف في مطار ميلانو يحيي الوفد الكوبي، ويشتم أوروبا.. رئيس الدولة «العظمى» يتوتر ويصيبه الهلع ويسعى إلى حجز حصته في مزاودات سوق الدواء واللقاح، بينما ضحايا الوباء يدفنون في مقابر جماعية. سوق النفط يتهاوى، وشاهدنا تداعي التوازن المالي الدولي بمجرد أن تباطأت ماكينة المال.
بضربة واحدة يشل كل الأشياء التي كنا نعتقد بأنها محكومة بمواصلة طريقها الأبدي البليد!!
هذا المجهري الغامض دفع الجميع للتشكيك في كل شيئ؛ سوء النظام الضريبي، أكذوبة التجارة الحرة وما يسمى سلاسة تبادل السلع الأساسية بين الشعوب، مستقبل المنظومة الصحية التي تم خنقها عندما تحولت إلى بزنس على يد الرأسمالية النيوليبرالية.
وفي الإثناء، علينا الحذر.. خلف المشهد ما تزال الراسماليات الجشعة تتصارع على أسواقها وإحتكارات الصناعات الدوائية. والأنظمة الإستبدادية تريد أن تؤبد العزلة والحجر على الحريات.
مقابل هذه الصورة القاتمة بدأ الإنسان يتساءل، وتغمره -أخيرا- رغبة جامحة بالتغيير!!
هكذا إكتشفنا تدفق الإبداع الفني الشعبي،.. بطولات مقدمي الرعاية الصحية في كل مكان. تصفيق النوافذ المشرعة ليلا.. تراجع القبح والتوحش قليلا.. وسطوع جوهر الجمال العفوي للبشرية حتى وهي تودع أحبائها.. وفوق ذلك: أدركنا بأن هذه الطبيعة بمائها وهوائها وترابها، تستطيع أن تعيش وتتجلى بدوننا وخارج نوافذنا.
للقضاء على الفيروس، تجتهد المراكز العلمية بتوفير أشكال متنوعة من العلاج، تسجل نجاحات متفاوتة، ويجري البحث عن لقاحات قد تتأخر، والأكثر تفاؤلا يتوقعون إنتهاء هذه الجائحة الموسمية قبل إنتهاء الربيع. بينما في جميع أنحاء العالم، ترتفع الأصوات لتقول أن الوقت قد حان لرسم مسار جريء لمستقبل أكثر صحة وعدالة.
نحن بحاجة إلى استجابة عادلة لأزمة الفيروسات التاجية،
والجواب ليس بالإستغلال والاستبداد، ولا بالعنف المغطى بالديمقراطية، ولا بموازنات التقشف، ولا بالمليارات المقدمة للشركات متعددة الجنسيات، ولا بالإنغلاق ووالتنكر للتضامن المحلي والدولي. عالم هؤلاء القادم هو نفس عالمهم ما قبل الجائحة، عالمهم هذا، لا نريده بعد الآن.
إنه وقت آخر للبشرية، ومكان آخر للعيش، نعيش أوقاتنا ونشغل مساحات عيشنا بشكل مختلف. نريد عالم يتنفس ويغني ويأمل ويشارك ويتحرر، حيث يأخذ الأحياء مكانهم الصحيح.
وإذا أردنا اختصار الوقت.. علينا أن نبدأ من الآن.