كوبا، أممية دائمة ومتجددة
لمن يعرف كوبا، لم تفاجئه خطواتها المتتابعة في مد يد العون لدولٍ وشعوبٍ في أربعٍ من قارات الأرض الخمس لمكافحة جائحة كورونا، وقد وجدت من واجبي الإضاءة على تفاصيل هذا العطاء المتجدد الذي لا ينضب، والذي تتجنب تغطيته وسائل الإعلام الغربية “الديمقراطية” واسعة النفوذ والانتشار، من موقع الوفاء والإلتزام الأخلاقي تجاه هذا البلد وتجربته التي أدين لها بما يزيد عن اثني عشر عاماً قضيتها فيها طالباً جامعياً ومتدرباً في حقل الاختصاص وتلميذاً في مدرسة حياتها، وهو حال غيري من مئات الطلبة العرب وعشرات آلاف الطلبة من أرجاء المعمورة في مختلف المجالات والتخصصات، دون أن يتكلف أيٌ منا فلساً واحداً، فعلى سبيل المثال، وفي المجال الطبي فقط، تخرج من “مدرسة أمريكا اللاتينية الطبية” المعروفة ب ELAM أكثر من 30 ألف طبيب من 90 بلداً ومن ضمنهم 200 طالب طب قدموا من الولايات المتحدة الأمريكية، من المناطق والأحياء الفقيرة والمهمشة فيها.
قبل تقديم اطلالة عن البعثات الطبية الأخيرة بسبب جائحة كوفيد 19، من الضروري توضيح الأساس الذي يفسر هذه السياسة والموقف الكوبي التضامني الأممي، رغم أن كوبا بلدٌ محدود الموارد، وبالكاد عدد سكانه يصل إلى 11 مليون نسمة، إلا أنه استطاع أن يقدم نموذجاً متميزاً، وأجزم، أنه مقارنة بموارده وامكاناته المادية والاقتصادية، يقف على رأس الهرم في هذا المضمار في العالم أجمع.
عند مطالعتنا لدستور كوبا عام 1976 ودستورها المقر حديثاً في العاشر من نيسان لعام 2019، نجد المادة رقم 49 من دستور 1976 والمادة 46 من دستور 2019 تنص كلاهما، وتحت باب “الحقوق”، والمقصود حقوق المواطنين، ما مضمونه أن الصحة بكل تعبيراتها وأبعادها هي حق من حقوق المواطن، وفي المادة 72 من دستور 2019، يعتبر التمتع بالصحة العامة “حق من حقوق كافة المواطنين”، و”مسؤولية الدولة ضمان تأمين الوصول إليها مجاناً وبجودة عالية”، وتأمين الحماية الصحية والتعافي. وحتى تضمن الدولة تحقيق وإنفاذ هذا الحق، فهي “أسست نظاماً صحياً يضمن تقديم كافة مستويات الرعاية الصحية ويضعها بمتناول جميع السكان”، كما طورت وتطور “برامج الوقاية والتعليم التي يساهم فيها المجتمع والعائلة كشركاء”، وقد أوكلت لقانون الصحة العامة تنظيم شكل وطريقة تقديم الخدمات الصحية.
وعند مراجعة قانون الصحة العامة، نجد في البند الذي ينص على ” تنظيم الصحة العامة ” وشكل وطريقة تقديم الخدمات الصحية في مجتمع كوبا الاشتراكي، الأسس التالية:
- ضمان حق كافة السكان في في تلقي الحماية والخدمة الصحية في أي مكان فوق التراب الوطني.
- التأكيد على الطبيعة الحكومية للمؤسسات الصحية ومجانية الخدمات التي تقدمها.
- الطبيعة الاجتماعية لممارسة مهنة الطب، بما يتوافق ومبادئ الأخلاق الاشتراكية والأخلاقيات الطبية المعتمدة.
- الرعاية الصحية الوقائية لها أولوية قصوى ضمن ممارسة أعمال الرعاية والنشاط الصحي.
- اعتماد التخطيط الاشتراكي.
- التطبيق المناسب لكل ما هو حديث ومتقدم من العلوم والتقنيات الطبية العالمية.
- المشاركة النشطة والمنظمة من قبل السكان في خطط ونشاطات الصحة العامة.
- التعاون الدولي في المجال الصحي.
- تقديم المساعدة في مجال الصحة كواجب أممي.
من جعبة التاريخ
بالعودة لأصول إرسال البعثات الطبية الكوبية الأممية، نجد أن البعثة الأولى كان مقصدها الجزائر، في الثالث والعشرين من أيار 1963، أي بعد أقل من عام على انتصار الثورة الجزائرية وهزيمتها الاستعمار الفرنسي وإعلان استقلال الجزائر.
تكونت البعثة الكوبية في حينه من 29 طبيباً، 4 أطباء أسنان، 14 ممرض وممرضة، و7 فنيين، تم توزيعهم على 6 ولايات، حسب الاحتياجات التي حددتها الحكومة الجزائرية في تلك الأثناء، وكان على رأس البعثة الكوبية الدكتور بابلو رزق حبيب.
من المهم الإشارة إلى أن المشاركة في هذه البعثة كان على أساس طوعي، فجميع المشاركين في هذه البعثة كانوا تقدموا برغبتهم الطوعية للمشاركة فيها، وبقيت الطوعية سياسة ثابتة لمن يرغب الالتحاق بالبعثات الطبية الكوبية في الخارج.
في ذلك الوقت، وبعد جلاء الاستعمار الفرنسي، بقي في الجزائر 600 طبيب فقط، بعد مغادرة غالبية الأطباء العاملين وأغلبهم فرنسيون، ومن هؤلاء كان 285 طبيباً جزائرياً. في أشارته للبعثة الطبية الأولى للجزائر قال الزعيم الكوبي الخالد فيدل كاسترو، لدى افتتاحه كلية الطب فيكتوريا هيرون في هافانا، “ان تعداد الشعب الجزائري 11 مليون نسمة، أي ما يزيد بأربعة ملايين عن تعداد سكان كوبا، لكنهم لا يمتلكون إلا أقل من ثلث عدد الأطباء لدينا” .. “لذلك توجهتب بحديثي إلى طلاب كلية الطب، أننا بحاجة لإرسال 50 طبيباً متطوعاً إلى الجزائر .. نحن بهذا نساعد أخوة لنا .. أنا متأكد أن المتطوعون سيكونون كُثُرْ، وفعلاً فقد تطوع أكثر من العدد المطلوب، وأغلبهم كان قد تخرج في السنوات التي سبقت انتصار الثورة وبعضهم بعيد انتصارها بأشهر قليلة”.
مسيرة تضامن أممي مشرفة، لا تتوقف
في الرابع من أيلول 2005، جمع الزعيم الخالد فيدل كاسترو 1100 طبيب كوبي بِعُدَتهم وعتادهم الإسعافي الأساسي في مسرح كارل ماركس في العاصمة الكوبية، ووجه لهم الحديث قائلاً : “قبل 48 ساعة توجهت بحديثي عبر برنامج “الطاولة المستديرة” (برنامج يبثه التلفزيون الكوبي يومياً)، حيث كررت عرضنا واستعدادنا لارسال “قوة” طبية مجهزة بالامكانات الضرورية للمساعدة الطارئة لعشرات آلاف الامريكيين المحاصرين بين الأنقاض وغَمر المياه بفعل “إعصار كاترينا” في لوزيانا وولايات أخرى جنوب الولايات المتحدة الأمريكية” .. “من الواضح أن الخطر الأكبر تعاني منه الجموع اليائسة من السكان الفقراء، ومن بينهم أناس في سن الشيخوخة يعانون من مشاكل صحية، ونساء حوامل، وأطفال، وهؤلاء بأمس الحاجة للرعاية الطبية الطارئة” .. “وبسبب قصر المسافة التي تفصل كوبا عن لوزيانا، ميسيسبي، وألاباما فالظروف مؤاتية لتقديم المساعدة للشعب الأمريكي” .. “يمكن في هذه اللحظات أن يتم التبرع بآلاف ملايين الدولارات، لكنها لن تستطيع انقاذ حياة واحدة” ..” كوبا قد لا تستطيع تقديم أدنى مساعدة لرواد سفينة فضائية، أو طاقم غواصة نووية في خطر؛ لكن، ضحايا “كاترينا” الذين يواجهون خطر الموت المُحدق، يمكن أن نقدم لهم مساعدة حيوية وذات جدوى” .. “هذا ما قامت به كوبا منذ يوم الثلاثاء 30 آب، الساعة 12:45 دقيقة، عندما توقف هطول المطر الغزير وتوقفت الرياح العاتية، كوبا لم تندم على تقديم عرضها في المساعدة، بالرغم من عدم ذكرها ضمن القائمة الطويلة للبلدان التي عرضت تقديم المساعدة والتضامن مع الشعب الأمريكي”.. ويتابع فيدل” بعد ثلاثة أيام تجرأت على تكرار عرضنا، وقد تعهدنا أنه خلال 12 ساعة يمكن لطليعة هذه “القوة” الطبية المكونة من 100 طبيب الوصول إلى هيوستن ومعهم عتادهم الإسعافي، وخلال أقل من 36 ساعة نكون استكملنا إرسال 1100 طبيب، وهؤلاء يستطيعون انقاذ ولو حتى حياة إنسان واحد فقط، من بين أولئك الذين يُحدق بهم الخطر ويمكن أن يفقدوا حياتهم في هذه اللحظات الدرامية” .. “لقد مرت 48 ساعة على تجديد عرضنا ولم يصلنا رداً بعد، سننتظر، وخلال هذا الانتظار ستملؤون وقتكم في دورات مكثفة في علم الأوبئة وتحسين لغتكم الانجليزية. وإن لم يأتي الرد أبداً فهذا لن يَفُتَ من عضدنا ولن ينال من معنوياتنا، بل على العكس من ذلك، فكلنا فخر ونحن سعداء أن أي مواطن أمريكي، فيما لو فقد حياته، لن يكون بسبب غياب استعدادنا واستعداد أطبائنا لتقديم المساعدة” .. وفي نهاية اللقاء أعلن فيدل تأسيس فوج “هنري ريفيه”(1) الطبي، ليصبح الذراع الكوبي الطبي الأممي للتدخل ومساعدة الدول والشعوب في ظروف الكوارث والطوارئ الصحية والأوبئة الفتاكة دون مقابل.
منذ ذلك التاريخ بلغ عدد الأطباء والممرضين والفنيين من القطاع الصحي الكوبي الذين شاركوا في بعثات طبية في ظروف الكوارث أكثر من 7950 تطوعوا للمساعدة في مواجهة 16 حالة فيضان، و8 أعاصير، و8 هزات أرضية مدمرة، و4 كوارث وبائية، وثلاث فرق كوبية تناوبت على التعامل والتصدي لوباء إيبولا في مناطق أفريقيا الغربية.
فوج “هنري ريفيه” في زمن جائحة كوفيد 19
منذ بدأت جائحة كورونا نهاية العام الماضي، وتجسيداً لمبادئ الثورة الكوبية وروحها الحية في التضامن مع شعوب الأرض والانسانية، التي رسخها، ورسم خطوطها، وطور تطبيقاتها، الرئيس الخالد فيدل كاسترو، فقد ابتعث ما يقرب من 28 فرقة طبية مكونة من قرابة 1600 من المختصين في هذا المجال إلى 23 بلداً كانت طلبت مساعدة كوبا لها بخبرتها في مواجهة الكوارث والأوبئة الفتاكة. هنا تجدر الإشارة إلى التخصصات المشاركة في هذه الفرق والبعثات الطبية، التي راكمت خبرة تجاوزت 15 عاماً من التعامل مع الكوارث الطبيعية والأوبئة الشديدة، وتشمل تخصصات علم الأوبئة، والفيروسات، والعناية الحثيثة، وطب الطوارئ، والباطنية، والتمريض، واستراتيجيات التخطيط الصحي والإدارة اللوجستية، وفنيون في تخصصات طبية مختلفة، واختصاصيون في الأجهزة الطبية. لقد راكمت الأطقم الطبية الكوبية خبرةً مميزة وممتدة، بدأت بإرسال أول بعثة طبية أممية في العام 1963 إلى الجزائر وما زالت مستمرة.
لقد شملت بعثات فوج “هنري ريفيه” للدعم والمساعدة في مواجهة جائحة كوفيد 19، حتى تاريخ كتابة هذا المقال، البلدان التالية: الصين، ايطاليا، إمارة أندورا، الرأس الأخضر، توغو، أنغولا، هندوراس، المكسيك، نيكاراغوا، فنزويلا، بربادوس، دومينيكا، سان كريستوبال ونييفس، انتيغوا باربادوس، سانتا لوسيا، سان فيسينتي وغرانادينا، بيليسي، هايتي، جامايكا، غرينادا، سورينام، الكويت، قطر.
في وقت الجائحة، والشدة، وإعطاء الأولوية للتعاون في خدمة الإنسانية والبشرية، لا تتوانى الولايات المتحدة الأمريكية وسفارتها في هافانا عن شن حملة مضادة، دشنتها بتاريخ 25 آذار الفائت عبر حسابها على تويتر، بدعوة مختلف الدول لعدم طلب المساعدة والاستنكاف عن قبول التعاون الطبي الذي تعرضه كوبا، وعدم استقبال بعثاتها الطبية التي ترسلها لهذا الغرض.
أنقل هنا، تعليقاً على حملة السفارة الأمريكية في هافانا؛ ما تحدثت به الممرضة الكوبية المختصة “ماري نييفيس” التي شاركت في العديد من البعثات الطبية الأممية سابقاً، حيث قالت “يثير حنقنا أن الولايات المتحدة الأمريكية وفي ظروف الجائحة تقوم بتشديد حصارها ضد كوبا، لكنها، وفي نفس الوقت تريد أيضاً حرمان شعوب أخرى من مساعدة طواقمنا الصحية للآخرين” وتتابع “انه لتناقض فج، أن البلد الذي يقول أنه الأقوى على سطح هذا الكوكب، أن يكون هو الأقل تعاوناً وتضامناً ومساعدة لشعوب أخرى محتاجة”.
__________________________________________________________________
هنري ريفيه، هو أحد المواطنين الأمريكيين الذين تطوعوا إبان حرب الاستقلال الأولى التي اندلعت عام 1868، واشنهر هذا الشاب بشجاعته وارتقى إلى رتبة ضابط في جيش التحرير الكوبي حينها. ارتقى شهيداً في سبيل استقلال كوبا من الاستعمار الأسباني في الرابع من آب 1876، بعد 7 سنوات من التحاقه بجيش التحرير.