كنفاني المثقف يستعيد نفسه
“يُعد من اللاثورية العجزُعن رؤية مأزق المقاومة في هذه المرحلةِ، والمُضي في تجاهل هذا المأزق، سواء عن طريق المعاندة، أو الركون إلى (الحلول الإعلامية) .” غسان كنفاني / من دراسة المقاومة ومعضلاتها.
هكذا نحن مع غسان الانسان القائد الشاب والمثقف الثوري الديناميكي والمفكر المبدع لذلك نظل في حالة بحث مستمرة عنه، وعن فكرته، وعن معنى فلسطين، كما رسمها، وكتبها، وفهمها. غسان هذا الممتلئ بثقافته، والتزامه، كما بعروبته، وهويته، كما بانتمائه، وبفلسطينيته. غسان الشمعة التي كانت تحترق من طرفين. يا ليتني لم أتعرف عليه! جملة قالها مرة صديقه المستشرق الهولندي “يان بروخمان” .
كلما كثرت الاحتفالات بإحياء المناسبات، وتحولت السياسة إلى نصب تذكارية، إما تمجيدًا للماضي، أوتندرًا بالزمن الجميل، فلا يكاد يوجد بيان أو خطاب إلا واحتفظ بعبارة (لا ولم ولن ننسى). وتحوز الثقافة عادة على مساحتها من الذاكرة العادلة، لذلك من واجبنا أن نستخدم الفكر لنختصر به الطريق، ونختصر قلق الإنسان في أزمة وجوده. هي ذاكرة منصفة تهدف إلى استيعاب وعي البؤس من دون الارتهان لليأس نحو ذاكرة إيجابية تتسع لرؤيةٍ أشمل تفهم ثنائية البطل السلبي والبطل الإيجابي.
مُثلت الثقافة الكنفانية بجدارة عملية، ثورية، إبداعية، مستمرة على جبهة المشروع الثقافي، الوطني، الفلسطيني، المقاوم، التي تهدف إلى تحصين هذا الوعي، وتجديد الانتماء، وإنتاج فاعلية ثقافية عميقة.السياسة بدون ثقافة تصاب بالعمى، كما أن الفصائل التي لا تسكنها الأفكار تتحول إلى خرائب، وهذا ما يفسر الخراب الرؤوي العام. دون ثقافة يعني نقص المناعة الوطنية.
الثقافة المضادة (التطبيعية) شكلٌ آخرُ من ذاكرةٍ (استعمارية) ملفقة، ومزيفة، واصطناعية، تذكرنا بالإبادة الثقافية للشعوب المستعمرة، كامتداد للحرب ذاتها، وامتداد لها، بأدوات أخرى، صفقة القرن ذروة الحرب على الذاكرة! تحويل النكبة إلى نكبة قرن، للإجهاز على الحق الفلسطيني. الذاكرة لا يمنك ان تلغى بقانون. واللغة العربية هي بنت الارض والبلاد وبنت الولادة، وهي اكبر من الكنيست والقرار العنصري البغيض.
الذاكرة الرمزية: القتل المعنوي تجاوز رمزية القدس وهذا ما يفسر موجة التطبيع العربي مؤخراً.
ذاكرة النكبة: شطب ذاكرة النكبة الانروا ليست فقط اغاثة بل عنوان قضية وذاكرة وحقوق اللاجئين.
المخيم شاهد على النكبة، الذي تعرّض إلى تشويه دلالته وبأدوات متقاطعة. لقطع الذاكرة المستمرة بين أجيال. لمسح الذاكرة، وبناء ذاكرةٍ جديدةٍ مزيفةٍ على إنقاذ ذاكرة محطمة.
هناك نظريات جعلت من الذاكرة معيارًا للهوية (اختراع الشعب اليهودي)، فمؤرخ مثل شلومو ساند يعتبر أن القومية اليهودية هي ميثولوجيا، جرت فبركتها قبل مائة عام، من أجل تبرير إقامة (الدولة الإسرائيلية)، يستدعي كشف العلاقة الصعبة مع الزمان، أي أن هشاشة الذاكرة تفضي إلى هشاشة الهوية، لذلك يأتي التحدي الثقافي، كضرورة لمضاعفة المناعة الذاتية التي يستولدها الشعور بالتهديد من الآخر، وتدورعلى مسرح القتال بين الرفض والقبول، وكذلك النسيان، والذاكرة، والمقاومة، والتطبيع.
وكما نعرف، إن الوجه الإقصائي للصراع قائم على نفي النفي، ويصير حفظ (الوطنية)، كشخصيةٍ، وخصوصيةٍ في إطارها القومي، والإنساني، مسألة محورية.
لقد كتب غسان كنفاني في دراسة له بعنوان: “المقاومة هي الأصل”: “جريمة خلع الفلسطينيين عن قضيتهم، ثم خلع فلسطين عن الفلسطينيين…”، وفي مكانٍ آخر قال: “لقد أدى عزل الفلسطينيين عن قضيتهم، المتعمد أو غير المتعمد، إلى “سلب الفلسطينيين” بعد أن تم سلب أرضهم، وكما أن ما تبقى من الأرض الفلسطينية لم يترك ليظل فلسطينيًا، كذلك فإن ما تبقى من شعب فلسطين لم يُترك ليظل بالمعنى النضالي ، فلسطينياً”.
ولأن أثر النكبة عنيفٌ ليؤسس لذاكرة سوداء بكل ما فيها من بصمات حادة، وجروح، وقروح، تصير هي بذاتها مرجعية ثقافية يصعب محوها، طالما أن أسبابها قائمة، وبنكبات متواصلة يتعرض لها الشعب الفلسطيني.
كتبه مروان عبد العال
كاتب روائي وقيادي في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين