ثقافة وأدب

قراة في كتاب رواية “ما تبقى لكم” لغسان كنفاني

هي الرواية الثانية للشهيد غسان كنفاني صدرت في طبعتها الأولى عام 1966 باسلوب وضح الكاتب ماهيته في البداية حيث بنيت الرواية على أحداث تتقاطع وتتمازج فيها الأمكنة والأزمنة وتتوافق وتتوازى تلك الأحداث في عالم مختلط مما دفع الكاتب الى تغيير حجم الحرف عند نقاط الانتقال فلم تأخذ الرواية الشكل التقليدي بتطور الأحداث وتسلسلها في نسيج الرواية . بل عمدت الى قول ما اعتزمت قوله دفعة واحدة عبر رسم الصورة الكلية بالكلمات ” ماتبقى لكم ” ويعود ليرسمها مرة أخرى بتفاصيل أدق “ما تبقى لها. ما تبقى لكُم. ما تبقى لي. حساب البقايا. حساب الموت. حساب الخسارة. ما تبقى لي في العالم كله: ممر من الرمال السوداء, عبّارة بين خسارتين, نفق مسدود من طرفيه. “

ومنذ بداية الرواية تتوالى الصور المكثفة خلال رحلة حامد في الصحراء مشيا من غزة إلى الأردن «رآها الآن لأول مرة مخلوقا يتنفس على امتداد البصر، غامضا ومريعا وأليفا في وقت واحد، يتقلب في تموج الضوء»، «وتراجعت أمامه المدينة حتى استحالت إلى نقطة سوداء في نهاية الأفق»، «وأمامه على مد البصر، تنفس جسدُ الصحراء فأحس بدنه يعلو، ويهبط فوق صدرها “

ينتظم إيقاع السرد في خطين متوازين، واحد يعبر الصحراء والاخريرتبط بساعة الحائط التي ظلت معلقة بالبيت، تدق بإيقاع رتيب فتتضح معالم القصة في اطارها العام فحامد ” المنهزم أمام عواصف القهر، وأمام المصائب المتلاحقة ” حامد الذي كان في صغره “شجاعا بصورة لا تصدق والذي ظل ينظر بعينيه الحادتين الى كل الرجال نظرة الند وهو ملتصق بأخته مريم كانه درع صغير من الفولاذ …. ووراء الشاطىء الاسود كانت يافا تحترق ونحن نطوف فوق موج داكن من الصراخ والدعاء ويافا تغطس كالشعلة في مياه الأفق البعيد ” ومريم هي الطفلة التي نزعت من حضن أمها، وتركت ضعيفة بين أسنان التشرد بعد لجوئهما إلى غزة بعد استشهاد والدهما ونزوح أمهما إلى الأردن وخروج حامد للبحث عن أمه والارتماء باحضانها -حيث لم يعد لديه ما يخسره – ليشكو لها حاله بعد أن اخطأت أخته مع زكريا “النتن” المتزوج وله أطفال وحملت منه مما اضطره إلى الموافقة على زواج أخته مريم من زكريا الشخصيه الخائنة المنبوذة من محيطها، هروباً من هواجس العار والفضيحة على الرغم من أن زكريا كان قد وشى بسالم أحد الأبطال الفدائيين ما أدى إلى إعدامه.

وتبرز عبقرية غسان كنفاني في رسم الصورة بالكلمات “وفيما كنا نتزاحم على الممر الضيق المؤدي إلى ذلك البناء المهدم كانوا يزجروننا تارة بالعبرية وتارة بالعربية المكسرة , ثم أوقفونا صفاً واحداً وانصرفوا يدرسوننا بإمعان واضعين فوهات رشاشاتهم تحت آباطهم، موسعين ما بين أقدامهم, وفجأة أخذت السماء تندف رذاذها ببطء وكآبة, فيما غاص المعسكر وراءنا بصمت أسود”. “وفي اللحظة التالية تماماً اندفع زكريا خارج الصف المستقيم وقذف نفسه راكعاً وكفاه مضمومتان إلي صدره وأخذ يصيح..فتراجعت الفوهات الفولاذية مترددة بطيئة, ثم تقدم الضابط فركله وتولي جنديان إيقافه على قدميه الواهنتين :” أنا أدلكم على سالم”. وقبل أن يفعل تقدم سالم من تلقاء نفسه ووقف أمامنا مباشرة ….إلى أن عاد فالتفت إلى زكريا وشيعه بنظرات رجل ميت:باردة وقاسية وتعلن عن ولادة شبح. وغاب وراء الجدار هنيهة. ثم جاء صوت طلقة واحدة فيما أخذنا ننظر إلى زكريا وكأننا جميعا متفقون على ذلك”.

وخلال رحلته الليلية في الصحراء متجها إلى الأردن يتعارك مع جندي من العدو ويربطه مهددا إياه بسكينة مفسحا المجال أمام كل النهايات المفتوحة “…… فأدركت أن بوسعي ذات لحظة أن أجز عنقه دون رجفة واحدة وأن هذه اللحظة ستاتي لا محالة” تلك إذن هي النهاية في اللحظة التي تتم فيها مواجهة الأعداء كانت مريم على الطرف الآخر في غزة تغرس نصل سكينها في لحم الخائن زوجها زكريا في مشهد أبدع الكاتب في تصوير تفاصيله.

ومن خلال التصوير المرهف بريشة فنان مبدع نكتشف أن القصة هي قصة مسافة لا بد أن نقطعها حتى ندرك ” ليس لدينا ما نخسره الآن “.

كتبه: مازن عليان
اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى