قانون المسؤولية الطبية والصحية لماذا .. ومن المستفيد!؟ / موسى العزب
من المستغرب أن يطرح مشروع هذا القانون بصفة الإستعجال مع أن نسخته الأولى قد عرضت قبل 18 عاما، وظهر واضحا بأن مبررات عرضها في ذلك الوقت قد تركزت على ضرورة إقرار التأمين المهني الإلزامي للطبيب بواسطة شركات التأمين، والآن يعاد عرض القانون من جديد، إلا أنه قد بدا في حلته الجديدة كقانون جزائي يفرض قائمة من العقوبات والغرامات المالية بحق الأطباء على وجه الخصوص، ورغم أن القانون قد حمل إسم “قانون المسؤولية الطبية والصحية”، حتى يشمل كل العاملين في حقل العلاج الصحي من أطباء وممرضين وأطباء أسنان وصيادلة، إلا أن مواده قد إستهدفت الأطباء دون غيرهم.
ركيزت موجبات القانون وتسويقه على “أهميتة لتنشيط السياحة العلاجية”، مع إدراكنا بأن تشريع القوانين في أي بلد يجب أن تجيب عن حاجة المجتمع إليها وتعكس مستوى تطور المجتمعات في مرحلة معينة، وليس للتجاوب أو التكيف مع العوامل الخارجية. ونضيف أيضا ومن خلال تجربتنا العملية، فإن معظم شكاوي الأشقاء العرب الوافدين للتشافي في الأردن ضمن إطار السياحة العلاجية، كانت تدور حول المغالاة في الأسعار وتجاوز لائحة الأجور الطبية.. والمفارقة اللافتة أمامنا، بإن مشروع القانون المقدم هذا، لم يشير بالمطلق إلى هذه المسالة!!
كما أن تراجع مردود السياحة العلاجية ومنذ ستة سنوات، قد جاء لظروف موضوعية، وتردي الوضع الأمني والإقتصادي في الدول العربية (اليمن والسودان وليبيا) والتي شكلت وتشكل المصدر الأساسي لهذا السياحة.
مراجعة عدد من مواد القانون تظهر توجه النية بإعادة مجتمعنا خطوات إلى الوراء بدل من حمله للتطور، وفي جوانب أخرى يتطرق لمواد وإجراءات طبية غريبة عن المجتمع بالكامل، ولم يسبق أن مورست في البلاد على الإطلاق.
المادة (13) من القانون لا تجيز القيام بأي عمل أو تدخل بقصد تنظيم التناسل إلا بموافقة الزوجين!! وهذا يعني بأنه يفرض على المرأة الحصول على إذن الزوج مسبقا في حالة رغبتها في تنظم النسل مؤقتا، وهذا توجه خاطئ وغير مبرر ولم يكن موجودا مسبقا، علاوة على إنتقاصه من وضع المرأة في المجتع، ويحد من حريتها وبحقها في التقرير بحالتها الصحية البدنية والنفسية.
نفس المادة من القانون، لا تجيز القيام بأي عمل أو تدخل بقصد قطع التناسل إلا بموافقة خطية من الزوجة وإخطار الزوج ! وموافقة لجنة ثلاثية من 3 أطباء إختصاص، مع أن هذا الإجراء سابقا كان يخضع لموافقة الزوجين فقط وتقدير الطبيب الجراح الذي قد يقوم أحيانا بإجراء التعقيم الدائم، أو إستئصال الرحم بالكامل، كإجراء إسعافي طارئ لإنقاذ حياة المرأة أو درء الخطر عنها لاحقا.
مشروع القانون يمنع تغيير الجنس ويمنع الإستنساخ البشري، علما بأن تغيير الجنس لم يتم إجرائه بالمطلق في الأردن سابقا، ولا نعرف لماذا يتم إقحامه في القانون، أما الإستنساخ البشري، فهو يعكس مرحلة علمية وتقنية متقدمة جدا لم نبلغها بعد، ولكن عندما يحظر القانون حتى إجراء الأبحاث والتجارب والتطبيقات بقصد إستنساخ كائن بشري، فهذا يعني إقفال بوابه واعدة للمعرفة أمام مجال التدواي من حقل الخلايا الجذعية ونقل وزراعة الأعضاء والتشافي من بعض أمراض السرطان والأمراض الوراثية والمناعية!
تحمل المواد من ( 23 ) وإلى المادة ( 28 ) مروحة واسعة من العقوبات بالحبس والغرامات المالية المغلظة، بعضها على “جرائم” لا تتعدى عدم إتمام السيرة المرضية في ملف المريض أو إفشاء سر لإحد أقرباء متلقي الخدمة، أو الإهمال بالقيام ببعض الإجراءات الإدارية والنظامية التي تساعد الطبيب على القيام بواجبه التشخيصي والعلاجي، وبعضها يطال الإهمال والخطأ الطبي، ولكن يلاحظ في هذا المجال تعميم العقوبات المالية وبشكل غير مسبوق. وشمولها لكل أبواب تقديم الخدمة على الإطلاق، دون تحديد حد أعلى لقيمة العقوبة القصوى، ومن الواضح بأن الإفراط في عملية التخويف هذه تهدف إلى التبرير والتهيئة لفرض المادة ( 19 )، والتي تحظر مزاولة المهن الطبية والصحية إلا بعد الحصول على التأمين عند إحدى شركات التأمين المرخص لها!! وكأن كل هذا القانون قد صيغ ليخدم شركات التأمين!!
ملاحظات فارقة:
في الولايات المتحدة الأمريكية مثلا، وفي سعيها للخصخصة الكاملة، وتخلي الدولة بالكامل من مسؤوليتها الصحية حيث تطبق قانونا مشابها، من حيث العقوبات المالية وإلزامية شركات التأمين، فقد أدى ذلك إلى حصول إختلالات كبيرة في السياسات الصحية للبلاد، في حين كانت المنفعة لشركات التأمين والمحامين، بينما لم تذهب إلى متلقي الخدمة إلا أقل من 20٪ من قيمة التعويضات التي صرفت. في حين ذهبت 80% إلى الحكومة والمحامين!
بموجب القانون سيسدد المشغل رسوم التأمين عن موظفيه من العاملين في القطاع الصحي، وإذا إعتبرنا أن عدد موظفي وزارة الصحة من المهن الطبية يبلغ حوالي 30 ألفا، فلنا أن نتخيل مجموع المبالغ التي ستصرف من موازنة الدولة، التي ستسددها الوزارة عن موظفيها، بينما يبدو المنحى العام، يتجه نحو خفض موازنة وزارة الصحة وتراجعها سنويا بمبلغ لا يقل عن 50 مليون دينار! وفي وقت يشكوا فيه أغلبية الأطباء في القطاع الخاص من البطالة المقنعة وتدني مداخيلهم!
مع العلم بأنه من بين 33 مستشفى عامل لوزارة الصحة حاليا، فإن 27 من غير مؤهل من ناحية الإمكانيات وبيئة العمل والبنية التحتية والكادر الطبي لإنفاذ مواد هذا القانون.
من الواضح بأن لوبيات شركات التأمين والتي أدركت “فوائد” هذا القانون، قد أخذت من الآن بممارسة ضغوط غير مسبوقة وعلى أكثر من مستوى لتمرير هذا القانون.
ندرك بأن هناك إلى حد ما مناخ مفتعل معادي للأطباء وحالة إعلامية تضخم الأخطاء الطبية وأحيانا تختلقها، ولكننا ننطلق في نقاشنا هذا حول القانون، ليس من أرضية رفض مبدئي لتنظيم القطاع الصحي في الوطن، وهناك قانون عقوبات يجيب عن معظم التحديات، وليس أيضا من باب مصالح شخصية وآنية عابرة للأطباء، ولكن من فهم وقناعة عميقين، بأن مثل هذا القانون سيعمل بشكل تدريجي على تدمير حالة الخدمة الصحية في البلد، فجميع المبالغ الأضافية التي سيتم إقتطاعها من المؤسسات الصحية أو الأفراد، لصالح شركات التأمين، وعلى رفع سوية البني التحتية، إضافة إلى المغالاه في إجراء الفحوصات المخبرية والشعاعية المساندة ،ستؤدي في المحصلة إلى مضاعفة الفاتورة العلاجية على المريض، وهو في المحصلة المواطن، والذي يعيش حاليا في ظروف صعبة مأزومة، وتأتي سياسات الخصصة والتكيف مع وصفات صندوق النقد الدولي لتزيد من مضاعفة تفقيرة ومعاناته.