فلسطين ومرآة الزمن الحقيقي
منذ التوسع العالمي للرأسمالية على كامل الكرة الأرضية، لتربط المجتمعات بسياقها، استغلالا ونهبا وسوقا لبضاعتها، والتاريخ سار واضحا يحكي عن نفسه بلغة الحقيقة، والإمبريالية (كأعلى مرحلة من الرأسمالية) تكلّمت لغتها بلا تورية أو تضليل، فكانت لغتها كما فِعْلها في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، لغة النار والحديد، لا بأس لديها بما ينظر إليها العالم التابع المنهوب والمدمر تحت أقدام جيوشها الغازية تاركا بين ركام البلاد التي يجتاحها ملايين الضحايا والمعذبين والظلام؛ فهي لم تكن ترى ضرورة لتبرير أو تمويه لما تقترفه، فكانت في ذلك ترى نفسها قوة تسود والويل للرافضين.كان ذلك حتى انفجار المرحلة الثورية في بداية القرن العشرين، وخصوصا في الحلقة الأضعف كما سماها لينين، مع الثورة البلشفية وتأسيس اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتي، والثورات التي اندلعت في العالم ضد المستعمر الفرنسي والبريطاني كذلك (بلادنا مثالاً). فما بعد هذه الحرب لم يكن كما قبلها، أقله من حيث الشكل، فقدمت الرأسمالية ما قدمته من تنازلات كـ»رشوة» تاريخية لشعوب دول المركز الامبريالي، وصارت الأيديولوجيا الرأسمالية بطابعها العام لغة اللّبرَلة ضمن صيغة دول الرفاه الاجتماعي عامة في بلاد المركز الامبريالي، وبقيت من جانب آخر تخوض الحروب المتنقلة ضد الأنظمة الاشتراكية او المناهضة للإمبريالية من كوبا إلى مجمل اميركا اللاتينية، ومن طوق الاتحاد السوفياتي إلى وسط آسيا، وعلى امتداد الدول العربية كذلك، وكانت قاعدتها في المنطقة «إسرائيل» هي الذراع الضاربة المباشرة تدخلا واحتلالا ضد التجارب والحركات الثورية في المنطقة، كمصر وسوريا ولبنان الحركة الوطنية، والثورة الفلسطينية في الأرض المحتلة توسعا إلى الأردن ولبنان، وصولا إلى تونس والجزائر وغيرها.
في سياق هذه المرحلة التي تبلورت منذ منتصف القرن العشرين وحتى انهيار الاتحاد السوفياتي زمنيا، والتي كان فيها الخط الثوري في حالة تراجع نسبي إلى حين ان عادت الامبريالية الناطق الأوحد في العالم، كانت النيوليبرالية وتقسيم الدول ومحاصرة أخرى وتعميم النهب الاقتصادي المالي يترافق جنبا إلى جنب مع تقدم لغة «نهاية التاريخ» فالاشتراكية انتهت، والعالم صار رأسماليا، ولغة الصراع الطبقي صارت «خشبية» ومفاهيمها وأوراقها تنتمي إلى مرحلة زمنية بائدة، فالعالم كما قدمته الأيديولوجيا الرسمية الامبريالية هو عالم «تعايش إنساني في ظل الرأسمالية»، عالم «تعدد الهويات» المختلفة ولكن ضمن السوق والاستغلال، هو عالم «المفاهيم الليبرالية» عن الحلم الأميركي و»التنمية» الوطنية بـ»دعم» من البند الدولي وصندوق النقد، ولا حاجة بعد الآن إلى مفاهيم الإنتاج الوطني أو الدفاع الوطني أو الثقافة الوطنية. ما هو مطلوب أن تعم الدعاية العابرة للحدود كما رأس المال المالي، محمولة على مجلات الأزياء وأفلام هوليود وثقافة الاستهلاك اليومي والتسطيح الفكري العام. فما كانت تتهم به الاشتراكية السوفياتية خاصة أنها ثقافة «تعليب الفكر ومحو الذات الفردية»، قامت هي به إلى حدوده القصوى، فدفعت بحكم الواقع حالة الفردانية الذاتية إلى مراحل متضخمة، ولكنها بهذا التضخيم الذاتي ضمن منطق الثقافة الليبرالية التي تعتبر الفرد خارقا كفرد، دون أي ظروف اجتماعية ما، قادرا على تحقيق الحلم الأميركي الوردي، أي الفرد «الناجح السعيد»، وذلك من خلال ثقافة التنافس «الحر» مع البشر الآخرين، وأن يلتحق بركب «الابداع الرأسمالي» في شركاته أو دور نشره أو جامعاته أو تجارته أو في السينما… التي هي بالنهاية السوق الرأسمالية الخاضعة لمنطق الاستغلال وتدمير المجتمع من الداخل، والطبيعة الى جانبه، وكل أرضية منتجة حقيقية للشعوب، تاركةً الناس في حاجة تبعية للغرب «المفكر والمنتج».
في هذه المرحلة الممتدة من بداية التسعينات وحتى انفجار الأزمة المالية العالمية كمؤشر على بقاء تناقضات الرأسمالية دون حل، بل هي تفاقمت أعمق وأعمق، كانت الرأسمالية تعمم وهماً أيديولوجياً عكس الواقع العملي، وهو الوهم بنهاية الصراع الطبقي الاجتماعي، ولغة التغيير الاجتماعي ومفاهيم يجب دفنها، وقامت بشراء ملايين الأقلام و»العقول» التي كانت سابقا «ثورية»، أو تلك التي تكن، لكي يتم تعميم الحلم الليبرالي الفردي عن النجاح والوصول (إلى أين لا أحد يعلم وقتها؟!). هذا الظهور المعاكس الأيديولوجي المناقض شكلا لأيديولوجيا الامبريالية ما قبل المرحلة الثورية في القرن الماضي (التي كانت تعبيرا صريحا عن الواقع الفعلي العسكري التدميري)، والذي جاء بفعل هذا الصعود الثوري نفسه وقتها وكنتيجة مباشرة له، رافق تحولات اجتماعية مادية هي تقديمات اجتماعية نسبية لإطفاء الاحتجاج أينما كان، واستوعب النقمة التي رافقت السنوات العاصفة، فاستبدلت السلاسل والسياط التي كانت تحكم الطبقات المسحوقة، بسياسة السيطرة «الناعمة» من خلال تخدير الوعي بالأوهام والوعود الواهية.
هذا التحول أنتج انفصاما ما بين الواقع الضمني الآخذ بالتبلور في احتدام تناقضات اجتماعية لم تنتهي كما قيل مع زوال الاتحاد السوفياتي، و»نهاية التاريخ»، بل تعمقت أكثر، وبين صورة المجتمع عن نفسه في أيديولوجيته المشوهة والتي رافقها ابتعاد عام عن التجارب الحزبية التغييرية وما رافقها من تراجع في أحزاب التغيير الجذري وخبوتها. إلى أن بدأ هذا الانفصام بالالتحام التدريجي مع انفجار الأزمة في 2008، ولكن مفاعيله لا زالت حاضرة بقوة في الوعي والثقافة الاجتماعية، وفي أنماط السلوك والتفكير التي أصبحت مكبلة لحامليها، ومدمرة لهم في آن، حاملة تناقض بين مضمونها الليبرالي الوهمي والابتعاد عن ثقافة الصراع الطبقي العلمي، وبين واقع الناس المأزوم الناتج عن أزمة الدول التابعة ككل في اقتصادياتها وانظمتها المفككة التابعة.
إذا كانت هذه هي الصورة العامة في انقطاع الزمن ولا زالت إلى حد ما ضمن صراع يشتد أكثر وأكثر عالميا، إلّا أن زمناً آخر لم ينقطع ولم ينخدع، وكان بحكم الواقع الموضوعي غير قابل للخداع والوهم، فكان استمرارا طبيعيا للزمن السابق الناطق بلغة حقيقة النظام العالمي وطبيعته. فكان الواقع تعبيرا عن زمنين في آن واحد، زمن موهوم وزمن شفاف، وهذا كان الزمن الفلسطيني على الأرض المحتلة. فالاحتلال والاغتيال والحصار والازمة السياسية التي طالت قوى الثورة الفلسطينية وارتهان قوى مختلفة للعدو والتسليم والتطبيع وتراجع المحيط الحاضن في الدول العربية نسبيا، الذي دخل في زمنه الوهمي الخاص اجتماعيا ورسميا (ما عدا الأحزاب والفصائل التي لم تمحى وبقيت مع فروقات تتكلم اللغة الحقيقية بالرغم من تراجعها الشعبي والسياسي)، كلها شكلت صدّا أمام أي شمول لهذا الواقع بالزمن الوهمي، فكان الواقع واضحا، احتلال وتدمير وقتل، ولا مكان للوهم تحت الحصار والمعابر والجوع والحرمان والاستيطان وآلاف الأسرى واغلاق المنافذ كلها.
هكذا مثلا بقيت المفاهيم والتجارب البطولية كنكران الذات والصمود والقتال الشرس من أجل الحرية والأرض والطفولة المتبلورة على عمر النضج المبكر في وعي الواقع والالتحام به شخصية وسلوكا، فما حالة «المثقف المشتبك» الشهيد باسل الأعرج إلا دليلا قويا على التمايز بين الزمنين الذي شهدهما العالم. ولهذا التمايز نفسه شكل باسل وحالة المثقف المشتبك نقطة استقطاب قوية في فلسطين وباقي الدول، لأنه الحالة «المثلى» النقيضة للـ»مثقف» الليبرالي المعمم. الحالة المعبرة عن التاريخ كما هو بحقيقته، تاريخ صراع ضد قوى استعمار يملك الحديد والنار والأيديولوجيا المهيمنة، ومحاربته لا تكون إلا بحالة نقيضة تجد في الفكر والثقافة السياسية العلمية عينها المرشدة، ولا «تستحي» بالسلاح أمام النظام الفاشي، فتشكل «المثقف المشتبك» كتكثيف للزمن الحقيقي، حضوره واضحا في فلسطين، ولكنه يصير واضحا أكثر في العالم، فالحالة الفلسطينية هي التكثيف الفعلي لحقيقة الامبريالية، ومع تراجع الأخيرة ينفتح أفق الحل والتحرر من جديد.