فلسطين مرة أخرى وربما أخيرة.. بقلم : د. لبيب قمحاوي*
أرجو أن لا يكون العنوان الفلسطيني لهذا المقال حافزاً للبعض لعدم قراءته إنطلاقاً من النهج السائد بأن هذا الموضوع قد استـُنزِفَ بحثاً وتمحيصاً وأنه لم يعد هناك ما يُقال ، وأن الفلسطينيين هم اللذين جنوا على أنفسهم .
علينا أن نعترف جميعاً بأن السلطة الفلسطينية قد أساءت إلى القضية الفلسطينية ومصالحها أكثر بكثير مما أساء إليها الإسرائيليون . فالإسرائيلي عدو ومحتل وغاصب وكل ما يفعله يأتي في هذا السياق . أما السلطة الفلسطينية ، وهي من المفروض أن تـُمَثـﱢل مصالح الفلسطينيين وقضيتهم ، فقد فشلت في مهمتها تلك ، بل والأنكى من ذلك أنها تحولت إلى وَبَال ٍ على القضية الفلسطينية من خلال تنسيقها الأمني مع إسرائيل والذي جعل منها تابعاً أمنياً لها ، بالأضافة إلى قبولها بأن تـُقدِمْ الغطاء الفلسطيني للإحتلال وتوفيرها للمبرر القانوني والسياسي والأخلاقي لإستمراره من خلال إستبدال مطلب الإستقلال الناجز بسلطة وهمية وإستقلال كاذب ودولة خيالية .
نعود الآن لبحث الأسباب الموجبة للخوض في هذا الموضوع مجدداً . والواقع أن معظم هذه الأسباب تعود إلى إستمرار طرح العديد من الكتاب والسياسيين الإسرائيليين لمسألة الفلسطينيين ومدى إمكانية تطبيق حل الدولتين ، ومناقشة أفكار مختلفة لطبيعة التسوية النهائية مع تنامي احتقارهم للحقوق الفلسطينية بل وللوجود الفلسطيني نفسه ، في حين أن مثل هذا الحوار يغيب عن الساحتين الفلسطينية والعربية و كأنه لا علاقة لهم بالموضوع .
يعتقد الإسرائيليون أن توسيع مفهوم الحكم الذاتي للفلسطينيين مع تقليص رقعة الأرض المخصصة لهم وإستمرار ممارسة سطوة الإحتلال عليهم من خلال سلطة فلسطينية إرادتها محكومة لإرادة الإحتلال الإسرائيلي ، يشكل الحل المثالي والنهائي للقضية الفلسطينية ويترجم مفهوم الدولتين كما تراه إسرائيل . ويبدو أن السلطة الفلسطينية قد تقلصت طموحاتها وأمالها إلى ما يقارب ذلك ، بل وأدنى منه . هذا هو واقع المشهد الفلسطيني الآن وهو يشكل ، أو ابتدأ يشكل ، ما يمكن تسميته “بالقضية الفلسطينية الجديدة” بعد أن تم تخلي حركة فتح والسلطة الفلسطينية والمنظمات المندمجة فيها عن هدف التحرير والعودة . وهكذا ، فإن وأد القضية الفلسطينية هو أمر تتحمل مسؤوليته بالدرجة الأولى السلطة الفلسطينية والمنظمات الفلسطينية الداعمة لها .
ما نحن بصدده إذاً هو “قضية فلسطينية جديدة” يتطلب إستيعاب أبعادها الخطيرة والغامضة صبراً لا حدود له ، والتصدي لها إرادة يفتقد الكثيرون إليها ضمن حالة متفاقمة من الإنهيار الفلسطيني والعربي .
الملل الذي يبديه الكثير من العرب وغير العرب تجاه القضية الفلسطينية والفلسطينيين هو رد فعل طبيعي للإنهيار العام في الحالة الفلسطينية ، والتهالك الفلسطيني الرسمي على الحكم ، وإستجابة قد تكون عفوية أو غير مقصودة أو ربما مقصودة لمخطط إسرائيلي ذكي في التخلص من العبأ الأخلاقي والضميري للقضية الفلسطينية من خلال تحميل الفلسطينيين مسؤولية التخلي عن قضيتهم والتنازل عنها بقبولهم بسلطة تقبل ببقاء الأحتلال بل وتستمد شرعيتها ووجودها منه . وهذا قد يؤدي بالنتيجة إلى شـَرْعَنـَةْ الوجود الصهيوني الغاصب على أرض فلسطين ، وتحويل الوجود الفلسطيني إلى حالة طارئة تستمد شرعيتها من الوجود الصهيوني . وقد بلغ السقوط الفلسطيني حالة شجعت الإسرائيليين على الطلب من الفلسطينيين الإعتراف بذلك والإقرار بأن الوجود الصهيوني على أرض فلسطين هو الشرعي تاريخياً وأن الفلسطينيين هم حالة طارئة .
وهكذا تصبح السلطة الفلسطينية هي الجسر الذي يعبره الإحتلال الإسرائيلي إلى بر الإستمرارية والشرعية . ولا يستطيع الفلسطينيون توجيه اللوم فيما وصل إليه حالهم لأي جهة أخرى قبل النظر إلى داخلهم ومعالجة موضوع السلطة الفلسطينية . فجدية الموقف الفلسطيني تعتمد كثيراً على ذلك . ومصداقية المطالب الفلسطينية تستوجب البدء بمحاسبة النفس قبل مطالبة الآخرين بذلك .
إن التصدي لبرنامج السلطة الفلسطينية وواقعها إنما هو في الحقيقة تصدي لبرنامج الإحتلال وواقعه . ومحاولة السلطة إستبدال الأهداف الوطنية الفلسطينية بالهدف الوهمي المتمثل بالهدوء والإستقرار والرخاء النسبي في الأوضاع الأمنية والأقتصادية في مناطق ما يسمى “بالضفة الغربية” المحتلة إنما هو في الواقع جزأً من المخطط الإسرائيلي ، لأن كل ذلك يجري بالتوازي مع برنامج إستيطاني مكثف ومستمر وبالغ الخطورة يستفيد من هدوء الجبهة الفلسطينية وعملية التجسس الرهيبة على الشعب الفلسطيني التي تقوم بها السلطة الفلسطينية لصالح الإحتلال تحت عنوان “التنسيق الأمني” المُلزم للفلسطينيين بموجب إتفاقات أسلو ، والذي لا يقابله تجسس مُلـْزِمْ لإسرائيل على العناصر المتطرفة ضمن الشعب الإسرائيلي تحت نفس شعار “التنسيق الأمني” . إن هذا التنسيق من طرف واحد يجعل من السلطة الفلسطينية حُكماً أكبر جهاز تجسس علني على الشعب الفلسطيني لصالح إسرائيل .
ولكن يبقى السؤال الكبير ، كيف يمكن التخلص من السلطة المذكورة وإجبار إسرائيل على ممارسة دورها بشكل مباشر كقوة إحتلال تتحمل المسؤولية الأدبية والأخلاقية والقانونية على المناطق المحتلة وعلى ما يجري للفلسطينيين من مآس ٍ ؟
الواقع أن إسرائيل ، إذا ما شعرت بجدية الجهود الهادفة إلى التخلص من السلطة الفلسطينية وإسقاطها ، فإنها ستبذل كافة الجهود لمنع ذلك . فالسلطة قد تكون أعظم إنجاز للسياسة الإسرائيلية الهادفة إلى احتواء القضية الفلسطينية وإعادة تشكيلها تمهيداً للقضاء عليها سلمياً . وهي بذلك لن تسمح بسقوط تلك السلطة ، وقد تقدم تنازلات ما من أجل ذلك مع أن تلك التنازلات قد لا تعني شيئاً حقيقياً على أرض الواقع نظراً لحجم السقوط الفلسطيني الذي لا يعطي أي حافز للإسرائيليين لتقديم تنازلات حقيقية .
إن هدف إسقاط السلطة الفلسطينية يتطلب إصراراً فلسطينياً شعبياً متزايداً في ذلك الإتجاه حتى ولو أدى الأمر إلى عصيان مدني حتى يتم إسقاط تلك السلطة وإجبار إسرائيل إمـَّا على الإنسحاب أو ممارسة دورها مباشرة كقوة إحتلال . الهدف هو وضع الأمور في نصابها وعدم السماح للإحتلال الإسرائيلي بالإختباء خلف واجهة مزيفة من المسؤولين الفلسطينيين التابعين لها ضمن إطار سلطة فلسطينية لا تملك من أمرها شيئاً .
المسمار الأول في نعش السلطة الفلسطينية يتمثل في ضرورة خلق رأي عام فلسطيني داخل فلسطين التاريخية وفي المهجر يرفض تقسيم فلسطين التاريخية وبالتالي يرفض مبدأ الدولتين كما تريده إسرائيل وكما أوضحنا واقعه الحقيقي سابقاً . ما نشاهده الأن هو المفهوم الإسرائيلي لكيفية إقتسام فلسطين التاريخية مع الفلسطينيين . دولة إسرائيلية غازية طاغية تسيطر على مجمل الأرض والمصادر ، وحكم ذاتي فلسطيني تحت رعاية الإحتلال على قطع وأشلاء مبعثرة من المناطق الفلسطينية التي تم إحتلالها عام 1967 . والفلسطينيون من خلال تنظيمات فلسطينية تحت قيادة فتح ضمن هيكلية السلطة الفلسطينية ، قابلون بذلك ، والإسرائيليون سعيدون به ، فلماذا إذاً يسمحوا بالتغيير ؟
دولة ديموقراطية واحدة متعددة الأجناس والأعراق والأديان على أرض فلسطين التاريخية هي الخطوة الأولى على الطريق الصحيح . والنضال الفلسطيني يجب أن يتحول من تحرير كامل فلسطين وهو هدف نبيل ولكن تحقيقه الآن غير ممكن عسكرياً ، إلى تحرير المواطن الفلسطيني على أرضه ووطنه من خلال إعطاءه حقوقاً سياسية كاملة غير منقوصة ضمن دولة ديموقراطية واحدة بغض النظر عن إسمها والتي قد تكون ثنائية أو متعددة الأعراق والأديان . وهذا المطلب يجب أن يأتي في سياق التأكيد على أن الفلسطينيين يعيشون ضمن دولة تـُجَسـﱢد التمييز العنصري في أبشع صورة . وهدف إزالته قد يكون أكثر قبولاً من المجتمع الدولي وقد يوفر أرضية من الدعم والتأييد التي يحتاج إليها الفلسطينيون لمقاومة جبروت الإحتلال الإسرائيلي وإرغام إسرائيل على إحترام الحقوق السياسية للفلسطينيين كمواطنيين في دولة واحدة تشمل كل فلسطين التاريخية .
الحديث لا يتعلق بالممكن والمستحيل ، إذ أن كل ما يناسب الفلسطينيين يعتبر مستحيلاً بالنسبة للإسرائيليين ، ولكن هذا يجب أن لا يشكل عذراً للإنسحاب من الأفكار المبدعة أو الإنقضاض عليها إرضاءاً للإسرائيليين . والفلسطينيون في محاولاتهم المتهالكة للتعامل مع قضيتهم من منطلق “فن الممكن” يبدوا أنهم بصدد الوقوع في الفخ الإسرائيلي من خلال الإيحاء لهم بأن ماهو مرفوض إسرائيلياً يقع في خانة المستحيل . ومن هنا يتحول “فن الممكن” من منطلق لحلول إبداعية إلى فخ للأستسلام وهو ما تفعلة السلطة الفلسطينية الآن في تبريرها لسياساتها الإستسلامية .
إن محاولة الوصول إلى تسوية سلمية مع الأسرائيليين يجب التعامل معه بإعتباره حرباً وليس بإعتباره نزهة . فالأسرائيليون لا حافز لديهم لإعطاء الفلسطينيين أي تنازلات حقيقية مجاناً . والحرب أنواع ، منها الحرب العسكرية ومنها الحرب السياسية والإقتصادية والتكنولوجية والثقافية إلخ ، ولا توجد تسوية سلمية دون حرب ما تـُحَفـِزها . وأي تفكير بأن التسوية السلمية ممكنة الحدوث من باب الشفقة أو مراعاة الحقوق الإنسانية أو التعاطف الإنساني هو ضرب من ضروب الخيال إن لم يكن الغباء .
إن الأسباب المُحَفزﱢة لتسوية سلمية غير قائمة في الحالة الفلسطينية . والسبب لا يعود لقوة إسرائيل بل لضعف الفلسطينيين وتهافت قياداتهم على فتات الحكم حتى ولو جاء من يد المحتل الإسرائيلي . وهكذا تـَخَلى القادة الفلسطينيون طوعاً عن إمكانية ممارسة أي نوع أنواع الحروب على إسرائيل لتحفيز السلام سوى حرب الإستجداء وهذه الحرب لن تؤدي إلى أي تسوية .
إن السياسات الفلسطينية التي أدت إلى كسر ظهر التجمعات الفلسطينية المؤثرة والهامة في الأردن ولبنان والكويت ، قد أَضْعَفـَتْ من فعالية أي مقاومة فلسطينية لنهج الإستسلام والتنازلات الذي إنتهى بإتفاقات أوسلو . ويبدو أن إضعاف تلك التجمعات لم يكن أمراً عبثياً أو حدثاً طارناً ولكنه جاء في سياقه التاريخي لقيادة فلسطينية كانت تعلم إلى أين تسير وما هي نهاية المطاف . كان هذا قبل اتفاقات أوسلو والتي ما كانت لتكون لولا تحييد تلك التجمعات وكسر ظهرها ، ولعل في ذلك درساً للجميع على المدى الذي يمكن أن يذهب إليه عَبَدَة السلطة من الفلسطينيين للحفاظ على السلطة .
* مفكر ومحلل سياسي