فرق بين خطابين: حين “هرب” أوباما إلى النتائج… فأعاده بوتين إلى الأسباب!
من تابع الخطابات التي ألقيت في الدورة السبعين للجمعية العامة للأمم المتحدة في أيلول 2015 يلمس جيدا الفرق بين خطابات الأقوياء وخطابات الضعفاء… بين النفاق وبين الوضوح… الفرق بين الجرأة وبين الجبن…
ولكن من بين جميع الكلمات التي ألقيت كانت المنازلة الحاسمة بين الولايات المتحدة وروسيا… وخلف كل منهما حلفاؤه…
لقد وظف كل من باراك أوباما وبوتين مختلف أدوات التأثير من اللغة والإيماءات والنبرة والحركة والتوقف والصمت والتلفت والنظر… لكي يقول ما يريد قوله… كانت مناسبة مدهشة لإرسال الرسائل وبأعلى قدر من المهارة والدقة…
ومع ذلك وعلى أهمية كل ذلك… إلا أن كل هذه المهارات لم يكن بمقدورها أن تتجاوز محددات الواقع وموازين القوى التي تعطي لأي كلمة ولأي خطاب مضمونه ومعناه… فاللغة ومهما كانت رائعة وجميلة لا يمكنها أن تحل مكان الواقع والوقائع… ولا يمكنها أن تبني موازين قوى غير ما هو واضح على الأرض..
لقد كانت كلمات باراك أوباما جميلة وقوية.. لقد كانت أقرب للشعر منه للسياسة… بدا الرجل حالما وكأنه يحمل هموم العالم على كتفيه… لكنه رغم كل ذلك مارس هروبا ذكيا منظما ومنسقا.. حين أخذ يركز على اللحظة والواقع والنتائج الكارثية التي يعيشها العالم، وخاصة بلدان وشعوب الشرق الأوسط وتحديدا الشعوب العربية… هنا بالضبط كان أوباما أقرب للشاعر وهو يتحدث عن الآلام والفوضى والتطرف والعنف والقتل والإرهاب ومأساة الللاجئين السوريين… تحدث عن خطورة انهيارالدول… ثم تحدث عن السلام والاتفاق النووي الإيراني… تحدث عن المأساة التي يعيشها الشعب الليبي… تحدث عن الفقر والبيئة والتجارة والتنمية… تحدث عن حقوق الإنسان وعن العلاقات الدولية ومؤسسات الأمم المتحدة… تحدث عن الشراكة…
يقول أوباما “أن الولايات المتحدة مستعدة للعمل مع الجميع لحلها (الأزمة السورية)، بما في ذلك روسيا وإيران”. وأضاف: «لا مجال لقبول طائفة تؤمن بقرب نهاية العالم مثل داعش ولن تعتذر الولايات المتحدة عن استخدام قواتها كجزء من تحالف واسع لملاحقتها”.
ودعا أوباما إلى «تعزيز التعاون والتنسيق لمواجهة تحديات العصر، وأبرزها الإرهاب والتطرف والفقر»، مشدداً على “أهمية احترام القوانين والمبادئ الدولية لأنها أصبحت الوسيلة الوحيدة لضمان سلامة وازدهار شعوب العالم”.
وبيّن الرئيس الأميركي أنه يعي “المخاطر التي يواجهها العالم اليوم، … وأن الولايات المتحدة لن تستطيع حل المشاكل الدولية لوحدها” وشدد على “اعتماد الدبلوماسية وسيلة لإنهاء الخلافات… وإن القوة وحدها لا يمكن أن تفرض النظام في العالم” لقد «تعلمنا هذا الدرس في العراق»… «إن العراق كان تجربة صعبة رغم قوتنا وأثبتت أننا بحاجة إلى دول أخرى لحل المشكلات”.
وعرج أوباما إلى تنظيم «داعش» قائلاً «إن الولايات المتحدة لن تسمح لأي قوة إرهابية كـ”داعش”بالتوسع”، مشدداً على أن قيام «داعش» بقطع رؤوس أشخاص، لا يجعل المسألة قضية أمنية لدولة ما وإنما قضية إنسانية تستدعي التحرك»، مبيناً في هذا الصدد «أن «داعش» يقتات من استمرار الحرب السورية”.
وذكر أن «هناك تيارات خطرة تريد أن تعود بالعالم إلى الوراء وتحاول فرض قوتها في شكل يتنافى مع مبادئ القانون الدولي ويقيد الحرية».
لقد تحدث أوباما وتحدث… وتحدث… لقد تحدث كثيرا…
لكنه في النهاية وفي الجوهر كان يتحدث فقط عن النتائج… ولم يقل لنا باراك أوباما كلمة واحدة عن الأسباب التي أوصلت العالم إلى ما هو عليه…
لم يقل لنا مثلا: أن تدمير العراق وحل جيشه كان بسبب الحرب العدوانية التي قامت بها أمريكا وبريطانيا انطلاقا من كذبة فاضحة اسمها أسلحة الدمار الشامل التي بعد انكشافها تم استبدالها لاحقا بشعار “تحرير الشعب العراقي”… لم يقل لنا أوباما لماذا وصلت ليبيا إلى ما وصلت إليه… ولماذا انتشر الإرهاب أكثر رغم الحرب الكونية التي بدأها جورج دبليو بوش منذ أحداث 11 سبتمبر 2001… كما لم يقل لنا من كان وراء تدفق عشرات آلاف الإرهابيين من كل العالم إلى سورية ومن دربهم وسلحهم ودعمهم سياسيا وإعلاميا واستخباريا وماليا…
لم يقل لنا باراك أوباما من الذي توهم أن بمقدوره أن يستخدم “داعش” و”النصرة” وما يسمى “المعارضة المعتدلة” سياسيا لنشر الفوضى واستنزاف الدول وجيوشها الوطنية… لم يقل لنا أوباما من كان وراء تهجير الشعب السوري حيث جرى تجهيز المعسكرات لهم مسبقا… كما لم يقل لنا باراك أوباما من يقف وراء معاناة وتدمير اليمن ولأية أسباب…
لم يقل لنا باراك أوباما ما هي الأسباب وراء فشل التنمية وما هي أسباب التلوث البيئي.. ومن هو الذي لم يوقع على اتفاقية “كيوتو” للحد من انبعاث ثاني أكسيد الكربون… كما لم يقل لنا شيئا عن مأساة الشعب الفلسطيني ومن هي القوى التي تدعم دولة الإحتلال الإسرائيلي.
كما لم يقل لنا باراك أوباما أيضا من هي القوى التي ضربت وتجاوزت وتجاهلت مبدأ الشراكة والحلول السياسية للأزمات… ومن الذي يشجع على قلب الحكومات والأنظمة بالقوة… ومن الذي حاول ولا يزال يحاول فرض نظام القطب الواحد….
لم يقل لنا أوباما كلمة واحدة (في خطابه الذي استمر أكثر من 40 دقيقة) عن الأسباب التي كانت وراء كل هذه المآسي والحروب والقتل والدمار والموت… لقد ذهب نحو النتائج ليعبر عن أحزانه وأحلامه بضرورة التعاون لمواجهة كل ما يجري…
لكن المعادلة استقامت حين صعد الرئيس بوتين المنبر وتحدث… كان صارما وواضحا ودقيقا… فكان في خطابه وكأنه يكشف زيف ونفاق باراك أوباما… فبقدر ما توغل باراك أوباما في وصف “النتائج” ذهب بوتين وبوضح لكشف الأسباب الحقيقية التي تقف وراء تلك النتائج… ومع ذلك لم يغلق الطريق أمام التعاون.. ففي النهاية السياسة تحتاج للواقعية، ولكن من على قاعدة الوضوح وعدم التذاكي…
قال بوتين:
«أن لا أحد يقاتل «داعش» في سورية بشكل حقيقي باستثناء حكومة الرئيس الأسد وقوات حماية الشعب الكردية»، وأشار الى “أن التخلي عن التنسيق مع الجيش السوري خطأ تاريخي”.
وأضاف: “لكل وطن وشعب حق بتحديد مصيره. علينا أن أن نتذكر التجارب السلبية في التاريخ عندما الدول الكبرى تقوم بتصدير الايديولوجية الديمقراطية على دول صغيرة بالقوة. هذا أدى الى نتيجة سلبية في حياة الشعوب مثل ما حصل في الشرق الأوسط”.
وتطرق الرئيس الروسي الى أزمة اللاجئين قائلا: «أنه لا يمكن حل مشكلة اللاجئين في الشرق الاوسط إلا بإعادة المؤسسات المدمرة للدول»، وأضاف: “أن روسيا لا يمكنها أن تتحمل أكثر الظروف التي نشأت في العالم وهي ليست لديها طموحات في سورية”.
وأكد أنه لا يمكن “التغاضي عن قنوات تمويل وإمداد الإرهاب الدولي بما في ذلك التجارة غير الشرعية للنفط”، وقال: «أنه يجب احترام التنوع في العالم وعلينا أن نعلم أن تشجيع التغيرات في العالم يؤدي إلى عواقب كارثية»، وأضاف: «نعتقد أن أي محاولات لزعزعة الشرعية الدولية خطرة وتؤدي إلى انهيار هيكل العلاقات بين الدول”.
إذن بوتين ذهب بالضبط وبعناد ووضوح إلى المنطقة التي بذل باراك أوباما كل جهوده لتجاوزها وتناسيها… وكأني بالرئيس بوتين ينظر في عيني باراك أوباما مباشرة ويقول: كل ما قلت سيدي الرئيس باراك أوباما هو نتائج طبيعية لسياساتكم … لقد دمرتم كل شئ… والآن تنافقون… وتحيلون ما يجري لأي شئ سوى الأسباب الحقيقية… لا تنس ذلك.
قال بوتين للولايات المتحدة وحلفائها وبوضوح: إذا أردتم مواجهة نتائج سياساتكم فنحن هنا ولكن من على قاعدة الوضوح والحسم في مواجهة الإرهاب واحترام حق تقرير الدول والشعوب لمصيرها، ومن على قاعدة الشراكة وليس التفرد… واحترام الشرعية الدولية والتكافؤ والندية في التعامل بين الدول… وهذا ينسحب على السياسة والاقتصاد والأمن والبيئة والمؤسسات الدولية… أما النفاق والكيل بمكيالين فلن يقود إلا لمزيد من الكوارث… وتلك هي بالضبط نتائج سياساتكم واستراتيجياتكم الفاشلة .
لقد قال الرئيس الروسي بوتين لمن يفهم ولمن لا يفهم: لقد تغير العالم… فلستم وحدكم على مسرح التاريخ… و”روسيا لا يمكنها أن تتحمل أكثر الظروف التي نشأت في العالم” بسبب استراتيجياتكم وسياساتكم… ولن نقف مكتوفي الأيدي… انتهى.