مقالات

عن رثاثة البورجوازية الكبيرة في مجتمعاتنا العربية….غازي الصوراني

إن تطور ونشأة الفئات الرأسمالية والبورجوازية في إطار التطورات والتحولات الاجتماعية العربية، يعطي لهذه الفئات سمات وخصائص تكوينية -تاريخياً- تميزها نوعياً، من حيث الولادة والنشأة والدور عن مجرى التطور الرأسمالي في البلدان الأوروبية، إذ لعب تزاوج رأس المال الأجنبي مع رأس المال المحلي أدواراً مهمة في تسهيل عملية توسع ونمو معظم الشرائح العليا المحلية بأنواعها (كومبرادورية، رأسمالية عقارية، مالية، ريعية، طفيلية.. إلخ) من جهة، وساهم بالطبع في ترسيخ جذور التبعية وما تعنيه من مصالح اقتصادية تعكس وتفسر طبيعة الخضوع والارتهان السياسي للنظام الامبريالي.

وهكذا نتفهم كيف تهيأت الظروف الموضوعية لنشأة الجناح الأخطر من أجنحة الرأسمالية العربية، المعروف بـ “البورجوازية الكومبرادورية ” (بالتحالف الوثيق مع بيروقراطية الأنظمة (العسكرية والمدنية).

وبسبب ما تحمله هذه الشرائح العليا من أدوار خطيرة) سياسية اقتصادية اجتماعية وثقافية هابطة) في البلدان العربية، تذهب بعض التحليلات إلى حد القول بظهور ما يسمى ” بالدولة الكومبرادورية ” في النظام العربي الراهن ، نتيجة التداخل العضوي الوثيق بين جهاز الدولة، وبين البورجوازية الكومبرادورية، رغم التفاوت بين هذا البلد أو ذاك، ويطلق عليها في بعض هذه البلدان ” البورجوازية السمسارية ” أو ” بورجوازية الصفقات أو الكومبرادورية من النوع الرخيص التي يمكن ان نسميها “كومبرادورية بازار” كما يقول د.سمير أميـن .

وعلى هذا الأساس، فإن الصفة المميزة لجميع شرائح ” البورجوازية الكبرى ” أو الشرائح الرأسمالية الكبرى – وهو الأكثر دقة – المسماة عموماً بالرأسمالية الطفيلية، هي عدم اشتغالها بالإنتاج الصناعي الوطني بصيغة مباشرة، نظراً لإرتباط نشاطها و دورة أموالها بمجال التداول وليس الإنتاج ( بالمعنى الرأسمالي المستقل و الواسع) .

لذلك أرى أنه من الادق الحديث عن شرائح رثة تابعة للنظام الراسمالي الامبريالي وخاضعة لسياساته وشروطه ..وبالتالي لا يجوز ان نطلق عليها صفة البورجوازية بحكم تبعيتها ورثاثتها (وانحطاطها وتخلفها واستبدادها) وفقدانها لاي رؤية حداثية او عقلانية او حتى ليبرالية وطنية .

فـالبرجوازية الرثّة هي البرجوازية التي لا تجذر لها في مصلحة تنموية بل هي راكضة وراء الربح السهل والسريع وتبيع نفسها، ومعها بلادها، للتحالف الامبريالي/الصهيوني كما هو الحال اليوم مع النظام العربي وجامعته العربية.

من ناحية ثانية، قد نتفق على ان مصطلح “بورجوازية” هو مصطلح له دلاله اجتماعية/سياسية/ثقافية ، فمع تطور انتاج البضاعة والسلع الرأسمالية شرعت البرجوازية الاوروبية في التصدي لسلطة الاقطاعيين ، وطالبت بإلغاء الامتيازات والتقسيمات المراتبية ، وبرز في هذا السياق عدد من المفكرين الذين اسهموا في اغناء وتطوير الفلسفة والفكر الاجتماعي في اوروبا تحت راية التنوير والعقلانية والديمقراطية الليبرالية ، وراكموا عناصر المرجعية المعرفية العقلانية النقيضة للمرجعية المعرفية الارستقراطية ومجمل افكار المجتمع الاقطاعي بما في ذلك القطيعة المعرفية مع الكنيسة، ومن ثم شق الطريق امام عصر النهضة للبورجوازية الصاعدة آنذاك في مسار تطور المجتمعات الاوروبية السياسي والاقتصادي والاجتماعي والتقدم العلمي، ومنذ تلك اللحظة التاريخية، سيتحدد مركز وقوة كل بلد في النظام الرأسمالي العالمي بدرجة نموه وتفوقه على الآخرين في التجارة العالمية، وبموقعه في نظام التخصص وتقسيم العمل الدوليين، وانتقال النظام الرأسمالي إلى مرحلة الاستعمار والإمبريالية التي بدأت مع دخول الرأسمالية مرحلة الاحتكار في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، حيث زادت درجة تركز الإنتاج ورأس المال، وأخذت المؤسسات الصناعية الكبيرة تزيح من أمامها المؤسسات الصغيرة والمتوسطة، منهية بذلك عصر رأسمالية المنافسة، وبرزت قوة رأس المال المالي، وهو رأسمال يستخدم في الصناعة بصورة أساسية، وتسيطر عليه البنوك والشركات الصناعية.

ولهذا فقد تميزت الفترة الممتدة من العقد الثامن من القرن التاسع عشر حتى الحرب العالمية الأولى بصراع محموم بين المراكز الرأسمالية الاحتكارية لاقتسام مناطق العالم وضمان احتوائها، للوفاء بمتطلبات استمرار عمليات تراكم رأس المال في تلك المراكز. يشهد على ذلك أنه في عام 1900 كان 90.4% من مساحة افريقيا و 75% من مساحة آسيا قد تم اقتسامها بين القوى الاستعمارية، لكن هذا التقسيم لم يكن متكافئا بين هذه القوى، وهو الأمر الذي أجج صراعا محموما فيما بينها، انتهى بإشعال الحرب العالمية الأولى.

وبعد أقل من ثلاثة عقود اندلعت الحرب العالمية الثانية، وكان اندلاعها تجسيداً لأزمة كبرى مرَّت بها منظومة النظام الرأسمالي، وانعكاسا للتناقض الشديد الذي تفجر بين القوى الاحتكارية في الدول الرأسمالية الصناعية. (على أثر بروز ألمانيا النازية وسعيها إلى مزيد من السيطرة على الأسواق العالمية بقوة السلاح(.

وما يعنينا هنا أنه في خضم هذه الحرب وما بعدها، نشأت وتطورت حركات التحرر الوطني في آسيا وافريقيا وأمريكا اللاتينية ، لتؤدي في النهاية إلى الحصول على الاستقلال السياسي وخروج المستعمر، أو بعبارة اخرى الى الإزاحة الشكلية لنظام السيطرة العسكرية والسياسية والإدارية المباشرة في المستعمرات وشبه المستعمرات، مع استمرار السيطرة عبر أشكال جديدة من الهيمنة الإمبريالية بالتعاون مع الشرائح الطبقية العليا من كبار الملاك والرأسمالية الزراعية والتجارية والكومبرادور إلى جانب الشرائح البيروقراطية في المستعمرات السابقة.

وفي هذه المرحلة ، أدركت الرأسمالية العالمية التي تولت قيادتها الولايات المتحدة الأمريكية بعد الحرب العالمية الثانية، ان إعادة إنتاج علاقات السيطرة والاستغلال تجاه الدول المتخلفة سوف يتطلب أشكالا جديدة، تأخذ بعين الاعتبار التغيرات المختلفة التي طرأت على علاقات القوى النسبية الفاعلة في العالم. وكان الوصول إلى هذه الأشكال هو أهم ما عبرت عنه مرحلة الإمبريالية.

إن السند الرئيسي الذي استندت عليه الرأسمالية العالمية في سعيها الدءوب لتجديد علاقات التبعية والسيطرة على البلاد المتخلفة حديثة الاستقلال، كان يتمثل في استمرارية بقاء الهيكل الاقتصادي التابع والمشوه الذي ورثته هذه البلاد من الفترة الكولونياليه والاستعمارية ، وما يرتبط بهذا الهيكل من شرائح وقوى اجتماعية اعتمدت مصالحها وقوتها في المجتمع على دوام هذا الهيكل، إلى جانب حرص تلك الشرائح والقوى الطبقية على تكريس تبعية بلدانها للنظام الامبريالي.

كانت محصلة هذه العلاقة، بقاء البلدان العربية مجالا مفتوحا أمام الصادرات الاستهلاكية من البلاد الرأسمالية، ومجالاً مربحا للاستثمارات الأجنبية، إلى جانب خضوع الشرائح الطبقية الحاكمة للهيمنة والشروط الأمريكية – الإسرائيلية بصورة غير مسبوقة ، كما هو الحال في المرحلة الراهنة ، ما يؤكد على فقدان هذه الأنظمة لوعيها الوطني بعد أن فقدت وعيها القومي، ولم يعد لها من هِّمٍ سوى المزيد من استغلال ونهب ثروات شعوبها التي باتت من شدة معاناتها وحرمانها تتطلع بشوق للمشاركة في تغيير وتجاوز هذا الواقع المهزوم لتحقيق أهدافها في الحرية والعدالة الاجتماعية والديمقراطية.

إن هذه الحالة من الخضوع والاستتباع والتخلف ، المنتشرة اليوم في مجتمعاتنا العربية، جاءت انعكاساً لظروف موضوعية وذاتية تاريخية وراهنة ، فقد خضعت مجتمعاتنا – كما هو معروف – لأشكال عديدة من السيطرة الخارجية التي كرست تخلفها، خاصة الحقبة العثمانية، ثم الحقبة الاستعمارية، وصولا الى السيطرة الامبريالية التي أدت إلى مفاقمة أشكال ومظاهر التخلف والتبعية وصولاً إلى خضوعها وارتهانها واحتجاز تطورها الاجتماعي (الطبقي) والاقتصادي ومن ثم تحولها إلى سوق استهلاكي عبر اداوت كومبرادورية أوشرائح رأسمالية عير منتجة، وجدت في العلاقة مع النظام الامبريالي ملاذاً آمناً لها، يضمن مصالحها الطبقية الأنانية، بمثل ما يضمن ويحمي أنظمتها السياسية الحاكمة، التي كرست كل مظاهر وأدوات الاستبداد والاستغلال والتخلف، إلى جانب دورها في مجابهة وقمع وخنق القوى والحركات التنويرية العقلانية النهضوية عموماً ، والحركات الديمقراطية واليسارية خصوصاً، في مقابل تكريسها –بالتنسيق مع الامبريالية الأمريكية- لما يسمى باليقينيات المطلقة –الغيبية- بكل تلاوينها ومذاهبها وطوائفها ومفرداتها وحركاتها الاسلاموية الرجعية التي أوصلتنا إلى حالة المأزق أو الانسداد الراهن.

وبالتالي لا يمكنني أن أطلق على هذه الشرائح الراسمالية الكومبرادورية والطفيلية والريعيية الحاكمة في بلادنا اليوم ، صفة البورجوازية بالمعنى النهضوي أو الليبرالي او بالمعنى الانتاجي، لانها شرائح رأسمالية لا علاقة لها بالانتاج السلعي الصانعي، بحكم تبعيتها وارتهانها للمراكز الرأسمالية ، و نظراً لإرتباط نشاطها و دورة أموالها بمجال التداول و ليس الإنتاج ( بالمعنى الرأسمالي المستقل و الواسع ) يكون من الادق الحديث عن شرائح للرأسمالية و ليست للبورجوازية، الى جانب فقدانها لأي شكل من اشكال الوعي النهضوي التنويري العقلاني، ولا ابالغ لو قلت بانها فاقدة اليوم لوعيها الوطني بعد ان فقدت منذ عقود وعيها القومي ، وهنا بالضبط يكمن سبب وصفي لها انها بورجوازية رثة بحكم فقدانها لكل عناصر الانتاج والنهوض والوعي الوطني ،وتعيد إنتاج التخلف وتجدده في مجتمعاتنا بذرائع دينية وتراثية ، وبوسائل القمع والاستبداد الداخلي عبر انظمتها الحاكمة .

وفي هذا الجانب ، أشير إلى أوضاع التطور الاجتماعي / الطبقي غير المتبلور في مجتمعاتنا العربية بصورة محددة ( ما زال في حالة من السيولة الطبقية) وبالتالي ، فهو تطور محكوم بالعلاقات الرأسمالية المشوهه ، حيث نلاحظ أن الصراع الطبقي في بلادنا ليس صراعا حصريا بين البروليتاريا والبورجوازية كما هو في البلدان الصناعية، بل هو صراع تختلط فيه العوامل الاقتصادية مع العوامل الدينية / الطائفية/ القبلية العشائرية والعائلية / ضمن تطور اجتماعي تختلط فيه الانماط الطبقية القديمة والحديثة والمعاصرة (النمط القبائلي وشبه الاقطاعي والرأسمالي التابع والكومبرادوري) مما يعزز القول بأن الشرائح الراسمالية في بلادنا هي بورجوازية رثة (منحطة بالمعنى الاجتماعي وعاجزة عن حل أي مشروع تنويري أو تحرري) ، وهذا يعني ايضا ان الرؤى الليبرالية لدى بعض الاحزاب والقوى الحاكمة في النظام العربي الراهن، تعكس ما اسميه ايضا ليبرالية رثة .

أخيراً لابد من ازالة اللبس والخلط في المفاهيم السائدة حاليا في الكتابات العربية بين تعبيري “البرجوازية” و “الرأسمالية” … فهما تعبيرين غير متعادلين على الصعيد المفاهيمي .

ولذلك من الادق القول عن البورجوازية في بلادنا ، انها “رأسمالية طفيلية” أو “بورجوازية كومبرادور” او سمساره او وسيطة او بورجوازية صفقات ، مما يعني انها شرائح للرأسمالية وليست للبورجوازية ، لان سماتها الاساسية عدم اشتغالها بالانتاج المادي بصفة مباشرة ، وانما يرتبط نشاطها ودورة اموالها بمجال التجارة والخدمات والعقار والتداول او الوساطة و السمسره .

انها بورجوازية تابعة ورثة ، لا تملك وعيا نهضويا او تنويريا ، ولا تسعى من اجل اعادة توظيف ثرواتها في انشاء الصناعة ، بل في التجارة او في البنوك الامبريالية وبالتالي، استمرار دورها في اعادة انتاج وتجديد التخلف الاجتماعي والاقتصادي والثقافي واستعدادها للتحالف مع القوى الرجعية العشائرية والاسلاموية من ناحية ومع القوى الامبريالية والعدو الصهيوني من ناحية ثانية ،وهكذا صوب مزيد من الاحتواء كما هو المشهد العربي المنحط في اللحظة التاريخية الراهنة بسبب عوامل كثيرة من اهمها رثاثة البورجوازية العربية.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى