عفرين والمشروعان التركي والكردي في سورية / د.ابراهيم علوش
شكلت عفرين هدفاً لنظام رجب طيب أردوغان منذ بدء العدوان التركي المباشر على سورية على مرحلتين، مرحلة ما يسمى «عملية درع الفرات» من 24 آب 2016 حتى 29 آذار 2017، التي أسفرت عن احتلال تركيا مناطق في ريف حلب مثل الباب وإعزاز ودابق وجرابلس، ومرحلة التوغل التركي في إدلب التي بدأت في 12 تشرين الأول 2017، والتي تمخضت عما يسمى «عملية غصن الزيتون» التي تستهدف بلدة عفرين وريفها حالياً، ويفترض أن تستهدف منبج أيضاً كما صرح أردوغان، مع العلم أن منبج أيضاً كانت هدفاً تركياً (لم يتحقق) في مرحلة التوغل التركي الأولى.
عفرين ومنبج كلتاهما في ريف حلب طبعاً، ولعل مثل هذا التوغل التركي في محيطهما جاء تعويضاً عن الجرح النرجسي العثماني من جراء استعادة كامل مدينة حلب إلى حضن الدولة العربية السورية، وكان قد جاء في مرحلته الأولى محاولةً «استباقية» فاشلة لمنع تحرير مدينة حلب بالكامل في نهاية عام 2016، هذا التحرير الذي لم تفت في عضده «عملية درع الفرات» ولا الدعم التركي المفتوح للعصابات الإرهابية والتكفيرية.
كذلك جاءت المرحلة الثانية من التوغل التركي في إدلب محاولةً «استباقية»، ستكون فاشلة أيضاً، لمنع تحرير محافظة إدلب من ربقة العصابات التكفيرية والإرهابية المدعومة تركياً التي راحت تتهاوى أمام تقدم الجيش العربي السوري والقوات الحليفة والرديفة في ريف إدلب الجنوبي الشرقي والتي تكللت مؤخراً بتحرير مطار أبو الضهور العسكري.
من الواضح أن النظام التركي يطمح إلى تحسين وضعه ووضع القوى المنهارة التي يدعمها على طاولة المفاوضات عشية محادثات فيينا ومؤتمر سوتشي والمسار التفاوضي بشكلٍ عام، ولعله تذرع بالوجود الكردي الضعيف «غرب الفرات» ليحقق هذا الهدف، فخطوته الأخيرة التي قد يبدو كأن إعلان «التحالف» عن تأسيس ما يسمى «قوة أمنية حدودية» كردية استفزها، والتي يبدو أن أردوغان يرى أن إعلان وزير الخارجية الأمريكي تيلرسون بأن الوجود العسكري الأمريكي في سورية سيستمر لـ «مواجهة إيران والدولة السورية» قد يغطيها سياسياً من جهة، وأن الموقف الروسي والإيراني والسوري المناهض لتأسيس التحالف «قوة أمنية حدودية» كردية ربما يتساهل معها مؤقتاً على مضض من جهة ثانية، كل هذا يكشف ولا يغطي حقيقة الأطماع التركية في سورية، على مستوى استراتيجي، وعلى مستوى محاولة استغلال «الفرصة» المتمثلة في خريطة التقاطعات والتعارضات المتحولة لـ«وصل» مناطق العصابات الإرهابية في أرياف حماة وإدلب وحلب عبر عفرين، في مسعى للتغلغل أكثر في شمال سورية، كهدف تاريخي، ولـ«احتواء تقدم» الجيش العربي السوري، والوجود الكردي، في آنٍ معاً.
سبق أن كتبت في «تشرين» في 11 تشرين الأول 2017: «تركيا ترسل رسائل فحواها أنها لا ترغب بالاصطدام بتكفيريي «النصرة»، أو بالجيش العربي السوري على المقلب الآخر، فعينها على محاصرة عفرين، ومنع التمدد الكردي باتجاه البحر المتوسط، وأن يتحقق ذلك بأقل قدر من الاحتكاك مع كل الأطراف ما عدا «قوات سورية الديموقراطية»، بل برضاها إن أمكن، وأن تضع موطئ قدمٍ لها في المنطقة تتيح لها «المشاركة بصياغة مستقبل سورية» من جهة، ومنع أي فراغ من التحول إلى ممر لتشكيل شريط كردي متواصل في شمال سورية ما يمكن أن يهدد تماسك الدولة التركية نفسها… لكن الجيش التركي لن يفتح معركة كسر عظم كبرى مع التكفيريين والأكراد في آنٍ معاً، وأولويته الآن هي احتواء التمدد الكردي، من دون التورط في معركة كبرى مع روسيا أو سورية أو إيران.
لقد تغيرت طبيعة الصراعات في عالمنا المعاصر، فلم تعد هناك عداوات شاملة أو تحالفات شاملة، بل نقاط تقاطع وتعارض موضعية سائلة زمنياً قابلة للتبدل من لحظة لأخرى ومن موضعٍ لآخر، ولعل ذلك يصح بدرجة أكبر عندما يزداد عدد اللاعبين الرئيسيين في أي صراع، لتبقى المصلحة القومية والوطنية البوصلة المركزية الهادية للسياسات المستقلة حقاً في مثل هذه الأنواء. ويبرز الميدان السوري كأبرز مثال على هذه القاعدة، ففي الرقة مثلاً ثمة احتلال أمريكي اليوم بأدوات كردية فعلياً، كذلك ثمة مشروع كردي برعاية أمريكية فيما زعموا أنه «شرق الفرات»، فالتناقض الرئيسي للدولة العربية السورية هناك يختلف عن التناقض الرئيسي في إدلب وريفي حلب واللاذقية حيث تتجلى المشكلة الرئيسية في تركيا ومشاريعها التوسعية.
وباستثناء التناقض الثابت دائماً مع العدو الصهيوني، بصفته صراعاً تناحرياً على مستوى قومي، لا على مستوى سورية فحسب، يمكن القول، في الفصل الأخير من كتاب الحرب على سورية، أن التناقض الرئيسي مع القوى التكفيرية المدعومة من الرجعيات العربية راح يفسح المجال تدريجياً، من دون أن يختفي، لبروز تناقضين جديدين، إلى جانب التناقض الدائم مع العدو الصهيوني كحاضنة لكل مشاريع التفكيك الجغرافي والاجتماعي-السياسي في الوطن العربي، هما التناقض مع المشروع التوسعي العثماني من جهة، والمشروع التوسعي الكردي من جهة أخرى، وهما مشروعان يتناقضان بضراوة مع بعضهما أصلاً، حتى لو اجتمعا موضوعياً علينا، مما لا يجوز أن يغيّب عنا تناقضهما، وامكانية الاستفادة من ذلك التناقض بينهما، ولا نستطيع أن نفهم، من دون إدراك هذه الجدلية، لماذا سلمت «قسد» بعض مواقعها للجيش العربي السوري إبان المرحلة الأولى من التغلغل التركي في شمال سورية، وهي الطريقة الوحيدة فعلياً لنزع أي ورقة توت عن عورة الأطماع التركية وقتها واليوم لو يدرك إخواننا الأكراد ذلك، لتجنيب أي جزء من سورية ويلات الاحتلال التركي البغيض.
سورية تواجه إذاً، عبر شمالها وشمالها الشرقي، مشروعين توسعيين عنيدين، متناقضين، أحدهما يحظى بدعم غربي، ويتلفح زوراً بالمعطف اليساري ليروج تحت عنوان «شعوبي» لنزع صفة العروبة عن سورية ولـ «تقويض» دولتها المركزية بذرائع «ديموقراطية» و«مجالسية» (من «مجالس» أو «هيئات الحكم المحلي»)، والآخر، التركي، لا يتورع عن توظيف العصابات التكفيرية والإرهابية في محاولة «تقويض» الدولة العربية السورية من دون أن يخفي مطامعه القذرة في العراق وبلاد الشام وبعودة إمبراطورية البلاهة العثمانية..
لكن أود في هذه العجالة أيضاً أن ألفت النظر لما قامت به «قوات سورية الديموقراطية» من تأسيس لألوية تزعم أنها «أممية» في صيف عام 2015، في رأس العين في محافظة الحسكة، مستدرجةً إلى هذا التشكيل مئات من اليساريين حول العالم تحت عنوان مقاتلة «داعش»، بينما الهدف الحقيقي هو تحقيق مشروع توسعي شوفيني معادٍ للعرب أصحاب الأرض الأصليين، ومعادٍ للدولة العربية السورية صاحبة السيادة على كل رقعة من الجغرافيا العربية السورية.
الاسم الرسمي الذي اطلق على هذه الألوية هو «تابور الحرية العالمي»، في تكسير استفزازي متعمد لكلمة «طابور» باللغة العربية، ويشارك في هذا «التابور» عدد من المجموعات اليسارية والفوضوية وغيرها التي قد يكون بعضها مخلصاً بالفعل في موقفه من التكفير في سورية، سوى أنها قصدت العنوان الخطأ، لأن اليساري الحقيقي لا يقاتل تحت راية العم سام، ولا يكون في حالة وئام مع العدو الصهيوني، ولا يحمل مشروعاً لاجتثاث العرب من أرض العروبة. ولو استعرضنا بعض أبرز المجموعات، التي بدأ بعض أفرادها يتدفقون على سورية منذ عام 2013، كما نستشف من قوائم عناصرها الذين قضوا في مواجهة التكفيريين (أو الجيش التركي) المنشورة على الشبكة العنكبوتية بلغات أجنبية، لوجدنا أبرزها «الحزب الشيوعي الماركسي-اللينيني» في تركيا (ماويون)، و«الفوضويون الخضر» في تركيا، ومنظمة «قوات الحرية المتحدة» التي تشكلت في عين عرب في كانون الأول 2014 من مقاتلين يساريين أجانب من دول مختلفة، وحزب «إعادة البناء الشيوعي» الإسباني، و«حزب العمل الشيوعي اللينيني في تركيا»، ومجموعة «الاتحاد الثوري للتضامن الأممي» اليونانية، و«لواء بوب كرو» البريطاني والإيرلندي، و«لواء هنري كراسوكي» الفرنسي، ومجموعات ذات توجهات فوضوية من حول العالم تعمل تحت اسم «قوات حرب العصابات الأممية الثورية»، وأخيراً، وليس آخراً، «جيش تحرير وتمرد الشواذ جنسياً» المعروف باسم TQILA. وكل هذه الجماعات لها مواقع أو صفحات فيسبوكية بلغاتها أو بالإنكليزية تعلن فيها عن نشاطاتها ودورها في «تابور الحرية العالمي» أو في غيره، وللعلم ثمة قوائم بعشرات من عناصر تلك المجموعات الذين قضوا في القتال في سورية، يبرز بينهم الأتراك والأمريكيون والكنديون والبريطانيون والألمان وغيرهم.
النقطة هي أن هنالك من يحاول توظيف الحس اليساري والتضامن الأممي زوراً، كما تحاول تركيا أن توظف الإسلام والمسلمين زوراً، لتحقيق أجندات ضيقة لا علاقة لها باليسار ولا بالإسلام، وهنالك مشروع إمبريالي- صهيوني يحاول «تعهير» كل شيء سامٍ وتأجيج سعار الفوضى الأيديولوجية في العالم ونشر الدمار في سورية، لكنْ هنالك في المقابل سورية وحلفاؤها وأنصارها.