عزيزتي الأم .. في بيتنا تلفزيون
في زمن الخيارات المطلقة والاصطفافات المفروضة على المجتمع، نفقد قدرتنا على الوسطية والإعتدال حتى في الأمور الحياتية اليومية، فما بين أبيض وأسود يجب أن نكون، واللون الرمادي الأنسب في تفاصيل الحياة، بات مرفوضاً. وربما هذا ما يظهر جلياً اليوم في القنوات الفضائية المختلفة عامة، والمحلية خاصة. فنحن ما بين رفض للخطاب المتطرف أو وصولنا إلى إباحية مفرطة في مكان ما، فلا هذا هو تطبيقٌ للدين، ولا ذاك عكس لعلمانية الفكرة.
انتشار القنوات الفضائية المتخصصة في السنوات الأخيرة، أصبح ظاهرة للأسف، اتسمت بالتجارية، فنجد اليوم الفضائيات الإخبارية، الفنية والدرامية المنوعة، ومنها ماهو مخصص للأطفال..
من الطبيعي أن يكون لكل قناة فضائية توجهها الثقافي وصبغتها، ولكن وجب علينا المتابعة الحثيثة والرقابة لضمان ما يتلقاه الطفل والأسرة، ليكون أقرب إلى ما نريد تقديمه من حيث الفكرة والمضمون.
إذا ما تابعنا بعض الإحصائيات – والتي لا تحتاج إلى إحصاء -، نجد أن ما يقضيه الطفل من ساعات أمام التلفاز، يزيد بكثير عمّا يقضيه في فصول الدراسة، هذا يصل بنا إلى ضرورة التنبه الحقيقي للمواد التي تقدم للأسرة عموماً، والأطفال خصوصاً، من خلال الشاشات الصغيرة، وعلينا أن نتوقف أمام الموضوع بأكمله، أن نقيّم الفضائيات ودور الإعلام في بيوتنا بالعموم.. لنصل إلى نتيجة “في بيتنا غريب..”
أيّـاً كان البرنامج ومهما كانت جودته، يجب أن ندرك أن ساعات المشاهدة الطويلة والمتواصلة، تنمي السلبية للطفل، وتعزز الأنانية لديه، فتفقده الشعور بالآخرين والقدرة على التواصل معهم، وتُسكن الخمول في جسده، فلاشك أن للحركة والألعاب الجسدية دورها في صحة بناء الجسم ونموه.
أما إذا ما تابعنا مضمون برامج الأطفال، وما يمكن وصفه ببرامج الأسرة، نجد أن هناك نقلة نوعية وهامة تميزها عن سابقاتها من البرامج التي تربيّنا على رؤيتها، منها ما تفوّق على سابقه، ومنها ما أوصلنا إلى نتائج سيئة في ذهنية وسلوك الطفل، نسلط الضوء على بعض سلبيات برامج الأطفال والأسرة اليوم وما يتخلل طريقة عرضها.
السمة الأساسية لما يقدم اليوم هي العنف، وتركيز العديد من البرامج على حركات وألعاب مؤذية للأطفال إن أرادوا تقليدها، كما أن العنف الذهني له مكان في هذه البرامج.. اعتماد صورة معينة للشخوص المقدمة حسب فكر القناة يعمّق إقصاء الآخر ورفضه.
إضافة إلى أن السواد الأعظم لهذه البرامج هي مستوردة مترجمة، تحمل أفكاراً غربية بالغالب، ترجمتها غير دقيقة، ولغتها العربية غير سليمة تماماً بل تشوبها الأخطاء الكثيرة.
استيراد البرنامج يعني غياب الهدف الحقيقي منه لعدم ملاءمة الفكرة أصلاً لمجتمعنا، إضافة إلى أن الاعتماد على هذه البرامج الجاهزة، أفقد التواصل الحقيقي بين مقدم البرنامج وشخصيته، وبين الطفل، كما كان سابقاً في تجربة “افتح يا سمسم” مثلاً، وبالتالي تشكيل شخصيات رئيسية في ذهن الطفل تكون شخصيات خيالية وكرتونية فقط.
اللافت ذكره، أن تكلفة استيراد هذه البرامج المرتفعة جداً والتي تعتبر أقل من تكلفة إنتاجها، تُغطى من خلال الإعلانات التجارية، وهي بدورها يجب التوقف عندها، لما تعززه من أنماط استهلاك سيئة لدى الطفل تعتمد على تقليد شخصيات معينة بملابسها وأشكالها، أو تسويق منتجات غير صحيّة وتفتقد للفائدة، تتعدد مظاهرها مع اتفاق مضمونها تبعاً لماركات وبرامج الأطفال المختلفة..
إعداد برامج الأطفال والأسرة يجب أن تشترك فيها منظومة متخصصة في مجالات الطفولة والاجتماع وعلم النفس والتربية بشكل عام، وتواجد هذه العناصر ممكن أن يؤدي إلى بناء برامج قادرة على تقديم رسالة معتدلة متجانسة للأسرة، تحرص على التأثير في المفاهيم وتصورات وطموحات الأطفال، لتعزيز الاستقلال في الرأي، والرغبة في الحوار. فهي فرصة للتعليم الذاتي وخلق حوار وتفاعل بين المتلقين بشكل إيجابي، وتنمية الخيال والابتكار، والقدرة على الاستيعاب والتذكر لاعتمادها على حاستي السمع والبصر وجاذبيتها في الحركة والصورة.
المطلوب أيضاً تنميته هو الرقابة الذاتية من المتلقي نفسه على ماذا يشاهد، وكم من الوقت يشاهد.. وتوفير البديل في حال تنظيم ساعات المشاهدة والتقليل منها، والأطفال تحديداً بحاجة إلى برامج حركية لتفريغ طاقاتهم وبنائها، إضافة إلى تعميق التجربة العملية للأشياء، وتشكيل صورة واقعية عنها.
هذا الجهاز الغريب في المنزل، ينقل لنا ثقافات مختلفة تسكن الأفكار بينها، علينا أن ندرك تماماً أن لكل منبر هدف، وللمتلقي سلطة القرار.. فلا نهمل في أسرنا هذا الضيف ولندقق. البرنامج المقدم للطفل هو للأسرة، ومايقدم للأسرة هو للطفل، ومابين كل مايقدم فقط رؤيتنا هي المعيار والرقيب.