مقالات

صورة .. وقضية .. في النقابات المهنية أيضاً تسعى الحكومة إلى تجريف السياسة وتعزيز النزعة الفردية …د. موسى العزب

     

 

  هذا موسم الانتخابات لأهم النقابات المهنية، وعلى رأسها نقابة المهندسين، والنقابة ماتزال تحافظ على صبغتها العامة في تنافس مفصلي بين التيار الديني ومناصريه وبين تحالف القوى اليسارية والقومية واصدقائهم في التيار الوطني الديمقراطي الواسع.

        إلا أنه في هذه الدورة إكتمل عقد تيار القائمة الخضراء بعد توسيع الإطار التحالفي  الممثل لها تاريخياً، وهي صيغة تسعى لخلق توازن معقول في إنتخابات النقابة، هذا بعد أن حققت القائمة البيضاء هيمنة شبه كاملة على مجلس النقابة.

        توازن سمح للخضراء ” والمستقلين “، إحداث إختراقات معقولة في جدار الاحتكار شبه التام للتيار الديني على المجلس لعدة دورات متعاقبة، وولد معطيات حقيقية لامكانية خوض انتخابات تنافسية جدية على منصب النقيب ونائبه، وعلى عضوية المجلس وهيئة المكاتب الهندسية.

        من الضروري التنويه هنا، لبروز ما يسمى بظاهرة ” المستقلين ” الذين طفوا بقوة على سطح انتخابات عدة نقابات أخرى، وفي نقابة المهندسين نراهم يزاحمون القائمة الخضراء على مساحتها وإسمها ويثبتوا عنوانهم وكأنهم كتلة نقابية متكاملة، دون ان ينجح أحد، بأن يحدد بشكل جلي من هم هؤلاء المستقلين وما هي أجنداتهم ومن هي مرجعياتهم، وفيما إذا كانوا مستقلين حقاً؟

        هذه الحالة قد لا تنعكس بشكل كامل على الأوضاع في نقابة الأطباء التي عاشت حالة من الفرز البرنامجي الواضح بين أهم تيارين في النقابة في إطار القائمة الخضراء والبيضاء مع ميل كفة الخضراء بشكل واضح في الدورتين الماضيتين رغم بروز تجمعات موسمية وغير مستقرة.

        إلا ان التحضير للإنتخابات القريبة القادمة، أفرزت حالة غير مسبوقة من التوتير وخلط الأوراق والتقليل من أهمية البرامج والمعايير في الترشح لموقع النقيب وعضوية المجلس. مع إغراق المعركة الإنتخابية بالنزعات الفردية والشخصية ومحاولة إزاحة مبدأ التنافس بين الرؤى والبرامج عن طريق مجموعات تتشكل على عجل وتقوم على العلاقات والطموحات الشخصية أو مواقع العمل ولوبيات الضغط المصلحية، وقد عزز هذا الاتجاه، إنكفاء القائمة البيضاء بمدلولاتها السياسية والتحاقها بإحدى هذه المجموعات.

        الصورة المنشورة، إلتقطت عام (2013) في مجمع النقابات المهنية، اثناء اقتراع الأطباء على مجلسهم الحالي، وأبرزت اللقطة مجموعة من الأطباء يتحلقون حول صندوق إنتخابات النقيب، وقد جُمعوا للتو لأغراض الصورة، بينما في العادة  تتم عملية التصويت بشكل أكثر تنظيماً ووقاراً، حيث يُثهد للنقابات المهنية بنزاهة ونظامية إنتخاباتها، وهو ما نراه على جانبي الصورة، حيث يتواجد أعداد من المقترعين داخل معازل خاصة، ويقومون بتعبئة نماذج الانتخابات قبل إلقائها في الصناديق.

        لمواجهة التطور النقابي والسياسي الصاعد في النقابات، عملت الحكومة كطرف مُشغل، وبما تمتلك من إمكانيات وأجهزة ووسائل إعلامية، على توجيه الحراك النقابي إلى وجهة تراجعية، وذلك تحت ذرائع إبعاد التيار الديني عن بعض مواقعه في قيادة بعض النقابات بداية، لتاخذ في طريقها فيما بعد كل ما ينتمي للعمل المنظم والرؤى السياسية، وهي تدرك بان الانتصار للسوق يستوجب إزاحة التيار اليساري القومي الديمقراطي الذي يحمل برنامجاً اجتماعياً وإصلاحاً سياسياً، وإحداث تجريف سياسي في النقابات.  

        ومع تراجع الدولة عن دورها الاجتماعي والبدء بلعبها دور الوكيل المسؤول عن تنظيم ضرورات أصحاب المصالح، تحول الفرد أيضاً إلى الوكيل المطلق للتغير، هذا الفرد الذي كنا وإلى وقت قريب نعتقد بأن وضعه يجب أن يتبع نماذج الرؤية الاقتصادية ويستمد دوره من المصالح الطبقية ومنظومة الخصائص الاجتماعية، أصبح  يتبع لمنطق السوق الذي يملي عليه توجهات مصالحه الذاتية، قبل ضرورات العمل العام وبالتالي اصبحت الطموحات الشخصية تغلب حسابات الانتماءات السياسية والمرجعيات الطبقية.

        ما تسعى إليه الحكومة، هو تهميش السياسة والتشكيك بمصداقتيها، وهنا يبرز تشجيع النزعة الفردية وتبديد البعد الجمعي في رسم مصير المجتمع. ونظراً للحاجة البشرية في الإنتماء إلى جماعة في مناخات عدم اليقين يتم دفع الناس إلى خيارات قصوى، إما الشوفينيه تحت الوطنية، وإما الأصولية الدينية، حيث يسود الخطاب السياسي والنقابي السطحي الأجوف، ويتحول مجتمع المهنيين بالتدريج إلى جزر متنافرة لا يضمها مجتمع موحد، وهي ظاهرة استقطابية عصبوية، تبسط وجودها بشكل فج في صفوف القطاع الأحدث سناً. 

        وبسبب الطبيعة المستحدثة وغير المتبلورة لهذه التجمعات، ترتفع وتيرة العنف اللفظي، وتتوفر اجواء، يمكن من خلالها لأي فرد قادر، ان يسقط تخيلاته وطموحاته الشخصية على مجموعته، الأمر الذي يفقد السياسة بمفهومها التقليدي اهم أسلحتها وادواتها.

        حتى يستطيع نشطاء النقابة المسيسون مواجهة هذه التحديات يتوجب عليهم إيجاد معادلة تُوازن جاذبية الشد لهذه التجمعات الافتراضية، بكل مقدرة ومرونة، من خلال تعظيم المشتركات والتقرب من العضوية النقابية لإعادة اشراكها في العملية الانتخابية في ابعادها السياسية.

        على تشكيلات القائمة الخضراء في النقابات المهنية (تحالف القوى اليسارية والقومية الديمقراطية واصدقائهم) السعي بسرعة لملىء هذا الفراغ العبثي ومحاولة عدم إضاعة فكرة الميل الدائم إلى خلق مجتمع نقابي موحد، تحدد معالمة قيم ومفاهيم مشتركة وليس فقط اشباع الاحتجاجات المادية المنفعية، المطلوب رفع وتيرة السعي لتعميم التثقيف في الشؤون العامة وتوفير منابر نقابية ديمقراطية يتمكن من خلالها الافراد من التعبير عن اختلافاتهم بموضوعية مع ضرورة توفير البدائل كما يجب التمييز بين الوظيفة التقنية لمجلس النقابة وبين دوره السياسي.   

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى