سيمون بوليفار .. المُحَرِّر
سيمون بوليفار، المولود بتاريخ 24 تموز 1783 في كاراكاس، فنزويلا، لعائلة مقتدرة تنحدر أصولها من بلاد الباسك، الواقعة بين إسبانبا وفرنسا، أصبح يتيماً في التاسعة من عمره، فانتقلت رعايته لجده ومن ثم لخاله، ولم يفارق مربيته ومرضعته، سوداء البشرة «إيبوليتا»، إثر مرض والدته مبكراً بعد ولادته، وكان سيمون يعتبرها بمكانة والدته ووالده الذين فقدهما مبكراً. انتقل سيمون إلى إسبانيا عند بلوغه خمسة عشر عاماً لإكمال الدراسة، رجع إلى كراكاس مع زوجته «ماريا تيريسا» التي توفيت بعد عدة أشهر بداء الحمى الصفراء. عاد وسافر أكثر من مرة إلى فرنسا وإيطاليا وبريطانيا ودول أوروبية أخرى، ما أتاح له فرصة التعرف على الثورة الفرنسية والنهضة الأوروبية، والتأثر بأفكار أعلام الفكر التنويري، ومن أبرز هؤلاء «مونتيسيكيو» صاحب نظرية الفصل بين السلطات، و»فولتيير» و»جان جاك روسو».
لقد مثلت الحقبة الممتدة من 1799 – 1807 مرحلة تشكل ونضوج الشخصية السياسية العسكرية والفكرية لدى سيمون بوليفار وعززت روحه الوطنية الوحدوية، وعندما أكمل، بالكاد، عامه الثاني والعشرين، أقسم أمام مُعَلِميه «سيمون رودريغز» و «فيرناندو تورو»، أثناء وجوده في روما في العام 1805، على تكريس حياته لتحرير الوطن الأمريكي من الاستعمار الإسباني.
رسالة جامايكا
التحق سيمون بوليفار في العام 1811 بحملة القائد العسكري فرانسيسكو ميراندا ضد الاستعمار الإسباني برتبة عقيد، وبعد فشل هذه الحملة واستسلام ميراندا لجأ إلى جزيرة «كوراساو» القريبة من السواحل الشمالية لفنزويلا في العام 1812، ليعيد الكَرَة في العام 1813 ويقود حملة جديدة توجت بتحرير فنزويلا، لكن سرعان ما تجرع الهزيمة مجدداً في العام 1814، فلجأ إلى جزيرة «جامايكا» التي كانت في حينه مستعمرة بريطانية، حيث كتب هناك ما عرف ب «رسالة جامايكا» في العام 1815 في مدينة كينغستون العاصمة، هذه الرسالة أقرب إلى وثيقة يعرض فيها لفكره وقراءته للأسباب التي أدت لسقوط «الجمهورية الثانية» في فنزويلا، ويتناول الواقع السياسي والاجتماعي في أمريكا اللاتينية، المستعمرة الإسبانية في حينه، والآفاق المستقبلية للأمة الوليدة بعد انهيار القوة الاستعمارية، إسبانبا، هذا الشيء الذي كان واثقاً من تحققه.
دستور أنغوستورا
في العام 1819 دعا سيمون بوليفار لعقد مؤتمر انغوستورا، المدينة المعروفة اليوم بمدينة بوليفار، في معمعان حروب الاستقلال، حيث كانت أجزاء كبيرة من فنزويلا وباقي القارة اللاتينية تحت سيطرة الإستعمار الأسباني، وقد تَوَجَ هذا المؤتمر القائد سيمون بوليفار بإطلاق لقب «المُحَرِرْ» El Libertador عليه. في هذا المؤتمر تم ترسيم الهيكلية السياسية والإدارية لجمهورية كولومبيا الكبرى Gran Colombia الوليدة التي ستضم ما يعرف حالياً بفنزويلا وكولومبيا والإكوادور وبنما.
في العام 1821 وبعد حروب كر وفر، خاضها سيمون بوليفار بجيوش الاستقلال، تم تحرير فنزويلا وإخراج قوات الاستعمار الإسباني منها، وخلال العام التالي 1822 وبجهد منسق مع القائد «انتونيو خوسيه دي سوكري» استطاع تحرير الإكوادور، وفي الأعوام 1824 و1825 استطاع استكمال تحرير أعالي البيرو وبوليفيا.
كانت حياة سيمون بوليفار قصيرة بالقياس الزمني، لكنها كانت حافلة بالأحداث والفعل المؤثر بما يكفي لتغيير مجرى تاريخ جنوب نصف الكرة الغربي، أمريكا اللاتينية، فقد غَطَتْ حملاته العسكرية التحريرية ضعف المساحة التي سيطر عليها الإسكندر المقدوني في أوج نفوذه، ما أمن تحرير خمسة بلدان من القارة اللاتينية، وأدت حروب الاستقلال التي كان على رأسها إلى نهاية الهيمنة الاستعمارية الإسبانية في القارة، والتي امتدت لأكثر من ثلاث قرون، تميزت بارتكاب مجازر الإبادة بحق السكان الأصليين، وتهديد تراثهم الإنساني وسلب ثروات بيئتهم الطبيعية، واستحضار العبيد من القارة الأفريقية، ما أدى لتهيئة المقدمات الديمغرافية الاجتماعية والسياسية لولادة أمة جديدة لها شخصيتها وثقافتها وإرثها القومي المتميز عن القوة الاستعمارية الغازية.
هذا الإستعمار الملكي النمط والعنصري في مفاهيمه وعقيدته، مارس التمييز والعنصرية بحق قطاعات اجتماعية واسعة الحضور والنفوذ في المجتمع وتعرف ب «الكريويوس»، وهؤلاء هم المنحدرون من عائلات من أصول اسبانية، لكنهم من مواليد أمريكا اللاتينية المستعمرة، ووصل التمييز في بعض المناطق في الحقبة ما بعد القرن السادس عشر بمنع الديبلوماسيين الإسبان الزواج من نساء «الكريويوس»، كما كانت مواقع النفوذ والوظائف العليا ممنوعة عليهم، وكان سيمون بوليفار متحدراً من هذه الفئة الإجتماعية.
لقد تحول نفوذ وتأثير فكر وإرث سيمون بوليفار التحرري إلى رمزية جامعة لشعوب أمريكا اللاتينية، وملهماً للقيادات والنخب المثقفة التي تبنت الفكر التحرري الاستقلالي في العديد من بلدان أمريكا اللاتينية والكاريبي، ومن أبرز هؤلاء المفكر والقائد اثوري «خوسيه مارتي» في كوبا الذي قاد آخر حروب استقلال كوبا ضد الاستعمار الأسباني نهاية القرن التاسع عشر، وحذر من الأطماع الإستعمارية للإمبريالية الأمريكية، والثائر «أوغوستو سيسار ساندينو» في نيكاراجوا الذي قاد المقاومة النيكاراجوية في مواجهة الإحتلال الأمريكي بين 1927 و1933.
قبل وفاة سيمون بوليفار، تعرض مشروعه التوحيدي للانتكاسة بسبب من النزعة الإنفصالية التي هيمنت لدى عدد من القيادات في مناطق مختلفة من كولومبيا الكبرى من فئات أوليغاركية ناشئة، كانت ترى مصالحها في تقسيم كولومبيا الكبرى لتؤول لها السلطات المطلقة في أماكن تواجدها (القطرية)، فدعا لعقد مؤتمر تأسيسي في بوغوتا، استمرت أعماله من 20 كانون الثاني إلى 11 أيار 1830، لكن جهوده ومقترحاته لم يوافق عليها المؤتمر، ما دفعه للاستقالة والتخلي عن كافة مسؤولياته القيادية، وحصل ما كان متوقعاً، إذ انفصلت فنزويلا والإكوادور عن كولومبيا الكبرى خلال فترة وجيزة بعد هذا المؤتمر.
توفي سيمون بوليفار بعد استقالته بسبعة أشهر ، في السابع من كانون الأول 1830، تاركاً إرثاً ونهجاً تحررياً مناهضاً للاستعمار والإمبريالية والتبعية، وملهماً لحركات التحرر الوطني والقوى التقدمية ليس فقط في أمريكا اللاتينية بل في العالم أجمع.