“سيجارة طبيب”
أثار فيديو إلتقط عنوة في مركز صحي في أحد أحياء عمان، لطبيب يحمل بيده لفافة تبغ غير مشتعلة، بينما يقوم أحدهم باستفزازه وتصويره وتهديده بالوشاية به إلى المسؤولين في وزارة الصحة، وتعميم صوره على أوسع نطاق.
انتشرت هذه الواقعة بسرعة قياسية، وازدحمت وسائل التواصل الاجتماعي بتكرار عرضها، وجاءت أغلب التعليقات عليها ساخنة ومسيئة بحق الطبيب والجسم الطبي في القطاع الصحي العام.
مثل معظم المواضيع الساخنة المستجدة، انقسم الشارع الاردني بصددها بين مؤيد ومعارض عاكسا المفارقات المجتمعية العميقة في التعامل مع مثل هذه المواضيع بأبعادها الاجتماعية والاعلامية والقانونية المختلفة، وفي حين ركز البعض على آفة التدخين وسلبياتها وخطر تفشيها بين الأطباء وضرورة التشدد في تفعيل قانون الصحة العامة الذي يمنع التدخين في الأماكن العامة، فقد ذهب البعض للتشكيك بأداء الأطباء والخدمة المقدمة في مراكز ومستشفيات وزارة الصحة، بينما تناول آخرون، الضرر المعنوي الذي تعرض له الطبيب من خلال عملية تشهير واغتيال للشخصية، وما جرّت عليه من إساءات بالشتم والتحقير وتأليب المواطنين، وذهب الآخرون إلى تحويل الاهتمام إلى أحكام قانون النشر الالكتروني وموجباته والحق بالتقاط الصورة والاذن بإعادة نشرها، بينما التقط الاعلام القضية وراح يؤجج حملة غير مسؤولة بتحريض الرأي العام على الأطباء وينتقص من أدائهم.
لقد لفت نظر الجميع مدى الانفعال والتسرع الذي مارسته وزارة الصحة بحق الطبيب موضوع الفيديو، وذلك بإنذاره وتغريمه بمجرد علمها بامواقعة، دون إجراء تحقق موضوعي ومنصف ودون الاستماع لوجهة نظره بالتهم الموجهة إليه، الأمر الذي فاقم من الاحتقان وتأليب المجتمع، وعزز من الاحساس بالمرارة والاسف لدى الأطباء.
القضية منظورة الآن أمام المحاكم في شقها الخاص بعد أن أقدم الطبيب المتأذي بتقديم شكوى بالتشهير والتحقير بحق ناشر الفيديو. ولكن لا بد أن نتناول هنا بعض الجوانب التي برزت في سياق السجال الذي دار حولها.
في الواقع، ما زلنا نتعاطى بكثير من السلبية في موضوعة تفشي التدخين بين مختلف شرائح المجتمع، وتبلغ نسبة المدخنين وسط الاطباء في الاردن حوالي 35% حسب دراسة لمنظمة الصحة العالمية، بينما تبلغ 4% فقط بين الأطباء في الدول المتقدمة، ولكن لا بد من التنويه هنا بأن تقدما هاما قد حصل في هذا المجال، فقد بلغت هذه النسبة 95% بين الأطباء الذكور قبل سنوات حسب تقرير لباحثة أردنية.
رغم أهمية التنويه إلى خطر انتشار التدخين في المجتمع وضرورة أحداث تقدم ملموس باتجاه كبحه، إلا أنه يجدر الملاحظة هنا بأن بعض الأطراف الرئيسية في المشكلة، وخاصة وزارة الصحة، قد دفعوا الأمور بشكل مفتعل لحصرها بـ ” سيجارة الطبيب”، مغلقين الباب بالكامل أمام مقاربة شاملة وموضوعية في التصدي للتحديات والمشكلات الحقيقية التي يعاني منها القطاع الصحي العام. الأمر الذي ووجه بردود فعل مريرة من قبل الأطباء.
وزارة الصحة ومن خلفها الحكومة، يتحملون المسؤولية الكاملة عن التردي في الوضع الصحي جراء سياسة انسحاب الدولة التدريجي من تقديم الخدمة الاجتماعية للمواطنين وسياسات الخصخصة الممنهجة وتفتيت القطاع العام في مختلف المجالات.
يتندر الاطباء ، كيف للوزارة أن تقوم بسرعة فائقة بالتصدي لهذه القضية، بينما تقف عاجزة عن التعامل مع التحديات والمشكلات العميقة التي يعيشها القطاع العام منذ عقود؛ حيث تعاني الوزارة من هجرة الكفاءات ونقص الكادر من مختلف التخصصات وقد بلغ عدد الأطباء الذين غادروا مستشفيات الوزارة حوالي 700 طبيب خلال أربع سنوات. ولتقريب الصورة، فقد بلغ عدد الإختصاصيين في مستشفى البشير عام 2015 مائتين وستة وأربعين إختصاصيا، بينما تراجع في العام الذي تلاه إلى مائة وتسعين! كما تقوم الوزارة بفرض التقاعد المبكر على الأطباء العامين، مضاعفة بذلك من الأعباء المادية المؤلمة بحق الاطباء وعائلاتهم، ومعمقة من النقص المزمن في المراكز الصحية. كما تفاقم الوزارة من المشكلة من خلال التباطؤ في التعيينات الجديدة، وبروز مظاهر الفساد في ملء الشواغر عبر شراء العقود الملتبسة، وما يسببه كل ذلك من نقص خطير لعدد من التخصصات في معظم مشافي الصحة.
تُقصِّر وزارة الصحة حتى الآن في إيجاد حلول ناجعة ومستدامة لوقف الاعتداءات المتكررة على الأطباء، كما نلحظ بأن عدد هذه الاعتداءات قد عادت للتصاعد واتسعت رقعتها، بعد أن تراجعت نسبيا منذ عامين، وبدلاً من أن تعمل الوزارة على إنصاف اطبائها ماديا ومعنويا أسوة بما يُعمل به في القطاعات الصحية العامة الأخرى، نراها تتخذ قرارا ظالما بخصم 10% من دخول الاطباء وتخفض من حوافزهم وتتأخر في صرفها.
ومن ناحية أخرى يعاني القطاع الصحي من غياب استراتيجية وطنية تنموية على مستوى الوزارة ونقابة الاطباء، وقد كشف المرصد الصحي للموارد الصحية عن وجود اختلالات كبيرة وغياب العدالة في تقديم الخدمة الطبية، وعلى سبيل المثال؛ لا تحظى محافظة عجلون إلا على نسبة 6 أطباء لكل عشرة آلاف مواطن، بينما يبلغ العدد في محافظة العاصمة اثنين وخمسين طبيبا لكل عشرة آلاف مواطن، تليها البلقاء بنسبة واحد وعشرين طبيب، وتأتي باقي المحافظات بسلم أدنى من ذلك.
تضيف الوزارة اسباب معاناة وعراقيل جديدة أمام الاطباء وذلك من خلال محاولة فرضها قانون المسؤولية الطبية السيء الصيت، وتلزيم نظام الاعتمادية بإخضاعها الوضع الصحي في البلد لرحمة شركة خاصة، وزيادة الفاتورة العلاجية، رغم اعتراض مجموع النقابات الطبية.
يقوم الاطباء في القطاع الصحي العام بعمل بالغ الاهمية وفي ظروف مادية ومعنوية حرجة ويغطون حوالي 70% من تشافي المواطنين، بينما تخفض الحكومة موازنتها في مجال الخدمات الاجتماعية ، وتعكس ذلك بشكل حاد على وزارة الصحة، وتضاعف الاعباء على كادرها وبناها التحتية.
واقع القطاع الصحي العام يحتاج إلى وقفة وطنية جادة ومسؤولة بمشاركة النقابات الصحية ومؤسسات المجتمع المدني المعنية، تنقذ هذا القطاع من حالة التآكل والتردي، وتضع خطة وبرنامج نهوض تنموي لكل مفاصل هذا القطاع.