مقالات

سنديانة فلسطين الباسقة، ونبض أرضها..

بعيد اغتيال الرفيق القائد أبو علي مصطفى، الأمين العام للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين بعملية صهيونية جبانة، وقف أحمد سعدات خطيباً وقد رفعت خلفه جدارية ضخمة، تحمل شعار “الجبهة” والسهم المتوجه إلى فلسطين، يتلو كلمته المدوية: “العين بالعين، والسن بالسن، والرأس بالرأس”! وبعد أربعين يوما، كانت خلية تابعة للجبهة الشعبية تطلق النار على الوزير المجرم رحبعام زئيفي وترديه قتيلاً.

قبل خطاب التحدي هذا لم يكن أحمد سعدات معروفاً بما يكفي في الفضاء الإعلامي، هذا المثقف الثوري الزاهد، ابن عامل المطحنة البسيط، لا يحب البهرجة والظهور الاعلامي.

بعد شغور منصب أمينها العام، لم تتأخر “الجبهة” بانتخاب سعدات أمينا عاماً جديداً بصورة تشبه الاجماع. أحمد سعدات تحمّل مسؤولية قيادة الفصيل الفلسطيني اليساري المقاوم الأهم، في مرحلة مأزومة من مسيرة النضال الوطني، وقد أخذت الانعكاسات المدمرة لاتفاقية أوسلو تطغى على الحالة السياسية والأمنية الفلسطينية، وفي لحظة حرجة من حياة الجبهة الشعبية بخسارتها لقائدها الفذ وصاحب التأثير الكبير حزبياً ووطنياً وقومياً.

تم اختيار سعدات رجلاً للمرحلة وتعقيداتها، ومسؤوليته الأولى المتمثلة بالقصاص من القاتل. تصدى سعدات للمهمة بكل وعي ومسؤولية، بعد أن أوغلت آلة القتل “الاسرائيلية” باغتيال بعض قادة الصف الاول أكبر للفصائل الفلسطينية، وكان لا بد من اتخاذ خطوة جريئة رادعة.

لم يغب عن بال الامين العام، معادلة الاستباحة المدججة للعدو، أمام الخنوع السلطوي، ولكن يجب اعادة الاعتبار لكرامة الشعب وقيادته وقضيته، لا يمكن للمقاومة أن ترضخ وتستكين أمام هذا الصلف، وإلا لاهتزت مكانة القضية ولبهتت صورة “الجبهة” وسط شعبها وعدودها على السواء.

صحيح أن النضال الفلسطيني يبنى على مرتكزات وأشكال من الصراع طويل الامد، ولكن هناك محطات فارقة وجب التعامل معها في لحظتها والارتقاء إلى تحدياتها.

 راكمت “الجبهة” طوال مسيرتها، على الساحة الفلسطينية والعربية حالة كفاحية عالية، وامتاز مناضلوها بتجربة نضالية واعتقالية مضيئة وراسخة، وسعدات يتمثل كل هذا التراث، ويبني عليه، ويقبل التحدي.

لم يكن لسعدات أن يخشى الاعتقال، وهو الذي أمضى معظم سنين حياته وراء قضبان المعتقلات، ولكنه حمل بمرارة جرح اعتقاله من قبل السلطة، فبعد أن تم الاتفاق على فك الحصار عن المقاطعة مقابل سجنه ورفاقه في أريحا تحت حراسة بريطانية أمريكية، تواطأ هؤلاء مع الاحتلال الذي اقتحمت قواته السجن واعتقلت المقاومين المحتجزين.

ولد مدرس الرياضيات في مدينة البيرة عام 1953 من عائلة لاجئة من قرية دير طريف قضاء الرملة، والده العامل في مصنع قرب قلنديا ثم حارسا لمعهد دار المعلمين، وأم من أصل لبناني أحبها كثيرا، بينما كان حلمه الدائم أن يصبح جنديا في وطنه الجريح.

تلمست أنامل أحمد النحيلة قضبان السجن في فترة مبكرة وكثيرا ما بحث عنه والده ليجده مشاركا في التظاهرات ولم يكمل الخامسة عشر من العمر، وقد اعتقل للمرة الاولى وهو في السادسة عشر من عمره وحكم لمدة أربع سنوات.

ساعد والده أثناء العطل المدرسية، فطاف أحياء رام الله بائعاً للمثلجات، وبائعاً للصحف وعمل في مصنع للأعلاف.

نجح في الثانوية العامة وهو في السجن، فالتحق بدار المعلمين، ثم بجامعة بيت لحم مطلع الثمانينات هو وخطيبته عبلة، وتراجع عنها بعد الزواج أمام حلم عبلة بالدراسة الجامعية وعدم قدرتهم على تغطية الدراسة .

من مؤسسي العمل التطوعي، ساعد في رصف الشوارع الترابية لمخيم الامعري، وشارك المزارعين في جمع محصول الزيتون وانشاء طرق زراعية، ليتفرغ عام 1989 للعمل التنظيمي والسياسي.

متذوق للموسيقى، وقارئ نهم للشعر، أحب زوجته عبلة التي تعرف عليها في لقاءات عائلية في السبعينات، وأحبت عبلة أحمد السياسي الذي أسرها بفكره ونقاشاته، وقالت عنه: كنت أشعر بأنه يختلف عن كل رجال الدنيا، يحترم المرأة ويثق بها، عزز ثقتي بنفسي، ومعه صار لي مساحة ورأي وشخصية.

قال لها حياتي منذورة للوطن، وأمي في رعايتي وتعيش معي، وافقت عبلة، وخلال شهور قليلة جرت التحضيرات لزواج بسيط، أقيم في البيت القديم الذي استأجره في البيرة. لبس بدلة على مضض ولكنه رفض بشدة ربطة العنق.

 واصل أحمد كفاحه، وأصبحت عبلة مناضلة نشطة تعرضت أيضاً للأسر. قارئ مواظب وكاتب بارع، تعلم العبرية بجهود خاصة وكذلك الانجليزية، وأعجب بكتابات تشومسكي وغرامشي وسمير أمين. لم يحب المبالغة بالمظاهر الاحتفالية، ورفض أن يحصل على سيارة الأمين العام.

عدم تمكنه من حضور ميلاد ابنته صمود بسبب الاعتقال ترك في نفسه أثراً كبيراً، واعتبرها تحديا جديداً في حياته، حيث نمت بينهما علاقة خاصة مميزة، اهتم برسالتها للماجستير وكتب لها: “أن المرأة تمسك تقريباً بكل مفاتيح التقدم الاجتماعي وقد تغلق هذه الابواب أو توسعها”!

داخل المعتقل هو قدوة وقائد ميداني فاعل، رفض الاعتراف بالمحكمة ولم يقف لهيئتها. خارج المعتقل هو قيادي بحس وطني وحدوي متقد وفعالية متجذرة، يمتلك ذاكرة ماسية، يندفع للمشاركة في الأنشطة الفنية الشعبية والمعارض والفعاليات الجماهيرية، وفي البيت يساعد في الاعمال المنزلية، ويسهم في إعداد الطعام بلمسة حنان وعطف دافق.

يقضي القائد أحمد سعدات حكمه في السجن لثلاثين عاما منذ 2009، وهو يعاني من مشاكل صحية في معدته وجهازه التنفسي، ويتم نقله من سجن لآخر للحد من تأثيره كما يمنع من زيارة العائلة.

يعرض سعدات في كتابه الذي صدر حديثاً “صدى القيد” لتجربته وتجربة رفاقه في زنازين العزل الانفرادي الذي تعدى كونه عقوبة موسمية، إلى سياسة انتقامية ونظام تعذيب جسدي ونفسي ممنهج، يستهدف كسر الأسير وتطويعه وتصفية روحه وكرامته وهويته النضالية الإنسانية، وتعتبر جريمة حرب يعاقب عليها القانون الدولي.

من يعرف هذا الرجل العنيد المتفاني لا يستغرب صموده الفذ معززاً تجربة مناضلي الجبهة الشعبية الخاصة وباقي المناضلين في زنازين الاحتلال، فسمت قوته الداخلية فوق قدرة تحمل الالم، ويقول: “في عتم الزنزانة يتحول هذا العزل إلى رحى تطحن الألم والقهر ليولد الدفء وينهض معه كثير من الأسرى ضد القهر والتمييز والتنكيل”. فكل هذا الوجع ليس إلا لحظة في سياق تحدي شعب بأكمله لمغتصبيه، يتحول فيه الأسرى إلى روح جماعية لشعبهم وقضيته.

في المعتقل يسهر سعدات من أجل إبقاء القضية حية، وتطوير الوعي النضالي، وتحويله إلى منظومة ثورية قيمية أخلاقية، تنعكس على الشارع وداخل السجون لتأخذ الحركة الأسيرة ملامحها الخاصة وتنجو مما يريده لها السجان من تفتيت وتصفية، فيتحول السجن إلى ساحة صراع جديدة، وجسد السجين أداة كفاحية فعالة.

في مشهد ملحمي بليغ، يكتب أحد رفاق سعدات: “عمل سعدات على صياغة اللائحة الداخلية المنظمة لسجن النقب ثلاثة أيام متواصلة، كان يعمل ليل نهار وفي المساء كان يكتب على ضوء الكشاف وهو جالس على حافة الخيمة لخلوها من الانارة، استمر بالعمل حتى الاعياء الشديد حتى أغمي عليه”.!

لم يستطع المعتقل قتل روح الانسان عند سعدات، بل زاد من اهتمامه بحياة الاسرى ومتابعة شؤون عائلاتهم، وعمَّق إلى حد كبير من سماته الإنسانية وروحه الحرة الجماعية.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى