سبعون عاما… سبعون طلقة في رأس النظام العربي / إبراهيم نصر الله
لم يكن الشهيد عبد الفتاح الشريف على بعد عشرة أمتار أو مئة متر من الجندي الصهيوني القاتل، إلينور أزاريا، فقد قام هذا العنصري بإطلاق النار على رأس الشريف وهو ملقى على الأرض من مسافة صفر، ولذا كان من الطبيعي أن يُكافأ وأن يهنئه الصهيوني نتنياهو، كما لو أن إلينور حقق معجزة لم يحققها جندي قبله، وأصاب فلسطينياً كان يبعد عنه ثلاثة كيلو مترات، في مقتل.
كلما كان المرء عنصرياً أكثر، دموياً أكثر، قاتلاً أكثر، كلما كانت حظوظه أوفر في هذا الكيان العنصري الذي ابتلي به الشعب الفلسطيني والشعوب العربية، مثلما ابتليت به الإنسانية، لفرط ما يُلحق بالبشر من عار لن ينجو منه الصامتون أبداً.
قبل أزاريا، بستين سنة تقريباً، كان هناك عنصري آخر ساهم في قتل 22 فلسطينياً في مذبحة كفر قاسم، كان اسمه يششكار شدمي، وبحماية مباشرة من فاشي آخر اسمه موشيه ديان، تمّ الحكم عليه بدفع قرش واحد، نعم، قرش واحد عقاباً له على المشاركة في قتل 22 إنساناً.
لنعترف أن هذا الكيان الصهيوني لم يزل يتطوّر، فلم يغرِّم أزاريا حتى قرشاً، ولم يزل يبني ترسانته العنصرية فكراً وممارسة، كما يبني ترسانته العسكرية، ولا يدّخر جهداً في تكريس هذه الترسانة لكل وسائل القتل التي يتفنن في ابتكارها، وعلى الهواء مباشرة.
ما حدث هذا الأسبوع، من تحويل الأرض الفلسطينية إلى حقول للقتل، وبهذه الصورة المرعبة، التي لم يعد العالم في حاجة لشهود ميدانيين ليتأكد مما حدث، بعد أن تحول كل إنسان إلى شاهد، وقد أصبح القتل المباشر، نمطاً من أنماط تلفزيون الواقع. ما حدث هو التصعيد الأكثر وقاحة، إذ لم تعد الكاميرا التي تلتقط المشهد بمنتهى الدقة مُخيفة للفاشيين، ولم يعد من يشاهد المجزرة على الهواء مخيفاً لهم، فالكيان الصهيوني اليوم يحسّ أنه في أوج انتصاره، فها هي قيادة أمريكية رعناء، تعطيه أكثر مما يمنّي نفسه به، وها هي قيادات عربية تتسلل للاحتفاء بالذكرى السبعين لميلاد دولة القتلة، وها هي (إسرائيل) تحظى بأخوات لها في عالمنا العربي، وها هو الانبطاح العربي، في غير عاصمة، في أوجه، مبرراً للقتلة جرائمهم، وممهداً الطريق للدبابات كي تقتل أكثر، في دفاعه عن حق الضباع المسكينة في حماية نفسها أمام هجمة الطيور والغزلان عليها!
يتهاوى النظام العربي، في الذكرى السبعين للنكبة أكثر، وتتهاوى القيادة الفلسطينية معه، القيادة التي منحت الاحتلال، منذ أوسلو، خمساً وعشرين سنة هادئة لينمو ويستمر ويبتلع ويقتل، القيادة التي كلما سعت للملمة رخاوة مواقفها، اكتشفنا أنها أضاعت أرضاً تحت أرجلنا وسماء فوق رؤوسنا، ومستقبلاً، لم تعد شيخوخة أرواحها، معنية به. مع أن النضال لم يكن في أي يوم من الأيام حكراً على شباب يقاتلون، بل كان مُلكاً لكل البشر بمختلف أعمارهم، ما داموا يملكون القدرة على المقارعة، لأن الأقدام التي قد تكون أول ما يتعب، ليست أول ما يستسلم ما دامت هناك إرادة المقاومة، إرادة الحق، وإرادة الحياة التي رفعها شاعرنا أبو القاسم الشابي إلى مكانتها اللائقة بها حين تغنى بها.
لا يحتاج أحد إثباتاً لكي يتأكد أن الشعب الفلسطيني قد قرر ألا ينسى، قرر ألا يموت، قرر ألا يستسلم، فالمعادلة واضحة منذ أن انطلقت ثورته: يستطيع العدو أن يحتل البيت، لكن لن نسمح له بالنوم والحلم في أسِرَّتنا. يستطيع أن يقتني ما شاء من أسلحة، لكن لن تغفو لها فوهة، فالمعارك التي انتصر فيها لن تنتهي، وفي كل نصر حققه هناك هزيمة مُضمَرة؛ فمنذ سبعين عاماً انتصر، لكن نصره الظالم سيظل يُدمِّر، كل يوم، مستقبلاً حلم به، وعودةً توراتية مجنونة لا تمتلك سوى أقدام أسطورة واهنة، ولأنه أورث، خلال السنوات السبعين الماضية، أجياله الجديدة هزائم أطول، ستعيش أجياله حياتها منشغلة في الدفاع عن النصر الظالم الذي حققه آباؤها وأجدادها القتلة، حتى يكون نصراً كاملاً، ولن يكون.
قبل أكثر من ثلاثين عاماً كتبتُ (الأمواج البرية) تلك الأمواج التي تحققت في ما بعد في الانتفاضة الفلسطينية الأولى، وتواصلت في الثانية، وفي ثورة السكاكين وسواها، وكانت النتيجة خلال هذه السنوات، أن عدد الأسوار التي بناها القتلة حولهم تزايدت وأصبحت أعلى، منها الشائك ومنها الإسمنتي ومنها الإلكتروني، وها هي الذكرى السبعون للنكبة، تفاجئ العالم كله بأن الفلسطيني قادر على أن يحوِّل أمواجه البريّة إلى تسونامي حرية لا فرار منه.
لم يكن إحكام إقفال الأبواب والنوافذ وتعلية الأسوار، في أي يوم من الأيام، وسيلة للنجاة. دائماً كان وسيلة مؤقتة، وما يحدث هذه الأيام، أن الضحايا قرروا أن يحاصروا قاتليهم أكثر. قد يقال الكثير في هذا المشهد التراجيدي الذي تتواضع أمامه الملاحم الكبرى، لكن هذا المشهد يفيض عن حدود معانيه وطبقات هذه المعاني: لا مخرج نجاةٍ للقتلة المتحصنين في بيوت ضحاياهم أبداً. فأحفاد جزّار كفر قاسم لم يهنأ أي منهم، وقد تبين أن القرش الذي دفعه جدّهم، لم يكن، ولن يكون، كافياً كي يعيشوا حياتهم بيسر، وما كوفئ به أزاريا، قاتل الشهيد عبد الفتاح الشريف، لن يستطيع أولاده وأحفاده أن ينعموا به، فأمامهم غد سيغرقهم فيه الدم الذي سفكه جدّهم.
أما (أخوات إسرائيل)، ولا نعني هنا سوى تلك الأنظمة الذيليّة، فهي أوهن من شقيقتها العنصرية كثيراً، سواء تلك التي يقام الاحتفال بإنشاء الكيان الصهيوني على أرضها علناً، أو تلك التي تحتفل به تحت طاولات أنظمتها.
.. هناك شعوب، وضمائر، لن تقبل للأبد أن تنام والأفاعي تسعى تحت ثياب أطفالها ومخدات أحفادها. شعوب ترفض أن يكون أبناء أزاريا وأحفاد شدمي في شوارعها العربية ذات يوم، يطلقون النار على رؤوسها، من مسافة صفر.
وبعد:
كما يتقن الماءُ فنَّ الحياةْ
هذه الأرضُ تتقنُ طرْدَ الغزاةْ