زمن ناجي العلي .. ما الذي تغير..؟ / علاء الدين أبو زينة
اثنان وثلاثون عاماً مرت يوم الخميس على رحيل رسام الكاريكاتير الفلسطيني الشهيد ناجي العلي، ولم تنتصر بعد أيٌّ من القضايا التي ناضل من أجلها. وإذا كان الراحلون يستطيعون أن يروا ما يحدُث في دنيانا حقاً، فإنّ ناجي العلي وأبناء جيله من الشهداء لن يغفروا لنا ما فعلناه بقضيتهم. أصبح أقصى ما نبذله للوفاء لهم هو عرض إرثهم في المعارض ومجرد التذكر وحفظهم من السقوط في ثقب النسيان بخطاب أو مقال، وهو أضعف الإيمان.
تغير الكثير من الأشياء منذ زمن ناجي العلي. لم نعد نسمع كثيراً عن مثقفين يحملون البنادق، ولا عن استشهاد كُتاب وفنانين بالاغتيال. وقد تبدو الأخيرة أخباراً جيدة، لولا أنها مرتبطة بالأولى. لم يعد المثقفون خطيرين على العدو. وربما يكون الذي تغير هو التشوه العميق الذي أصاب طبيعة الاشتباك، إذا كان ثمة اشتباك في الأساس بالنسبة لجزء كبير من الشعب الفلسطيني.
نعم، ثمة الشيب والشباب المتشبثون بالمقاومة في الأرض المحتلة، والمشتبكون في صراع يومي مع العدو الوحشي هناك. لكن معظم الفلسطينيين الذين في الشتات خرجوا –أو أُخرِجوا- من الصراع. كان ناجي العلي، وغسان كنفاني، وعلي فودة، وكمال ناصر، وكمال عدوان، وأبو يوسف النجار وخليل الوزير-من بين آلاف الشهداء- ينشطون في المنفى المكاني، لكنهم كانوا مشتبكين مع العدو ربما أكثر من أقرانهم في الوطن. فهل تغير الناس، أم أن المنفى ضاق على الفلسطيني المهجّر حتى لم يعد حيزه يسعه ما لم تكُن يداه مرفوعتين إلى أعلى فوق رأسه؟
فسّر ناجي العلي نفسَ الحالة في زمنه حين قال: “اللي بدو يكتب لفلسطين، واللي بدو يرسم لفلسطين، بدو يعرف حالو: ميت”. وكان هذا صحيحاً بأكثر من طريقة: بتعرضه للاستهداف المباشر بالتصفية الجسدية، كما حصل مع ناجي نفسه، أو الاستهداف بالاعتقال والعزل والحصار بتهمة “مناضل”. في ذلك الحين، كانت كل الأنشطة المتعلقة بفلسطين، ومنها استخدام الكتابة والفن كأنشطة نضالية، تشبه الالتحاق بالفصائل العسكرية من حيث التأثير والتبعات. وقد يتعقب المرء اليوم علاقة عضوية منطقية بين البندقية والقلم؛ بين المعسكر والمكتب، في إطار الاشتباك الشامل. أما الآن، فالثقافة من دون البندقية منزوعة الأظافر بحيث لا تستحق المطاردة. وفي هذا راحةٌ ظاهرية للمثقفين الراهنين. كلهم يعرفون إغواء أمان المكتب، والكثيرون منهم يصارعون في أنفسهم شعوراً حارقاً بالتقصير واحتمال النفاق أمام أطفال الحجارة المشتبكين. لكنّ الذي عاش الأجواء القديمة، يعرف كيف تستطيع حركة الجموع المتحمسة أن تغلب الخوف وتُطمئن المنضم بالحماية التي تشيعها الصفوف من حوله -حتى لو كانت الطريق ستؤدي إلى احتمال الشهادة المقرون باحتمال الانتصار.
كان الروائي والمناضل الفلسطيني الشهيد الآخر، غسان كنفاني، أول من لاحظ رسوم ناجي العلي في زيارة إلى مخيم عين الحلوة، والذي نشر له أولى لوحاته في مجلة “الحرية” سنة 1961. ويُلاحَظ أيضا أن ناجي العلي، المشاكس عمل دائما محررا ورساما ومخرجا صحفيا، في صحف كبيرة في الكويت ولبنان: في الطليعة الكويتية، والسياسة الكويتية، والسفير اللبنانية، والقبس الكويتية، والقبس الدولية وغيرها. ويعني ذلك شيئين: أن المثقفين العضويين كانوا يساندون بعضهم البعض في تلك الأوقات، تجمعهم حماسة الاشتباك والمشروع الإيجابي المشترك الذي يلغي النرجسيات والمنافسات؛ وأن تلك الأوقات لم تكن تخلو من مؤسسات لا تتوانى عن توظيف المبدعين المشاكسين ونشر أعمالهم، متشجعة على ما يبدو بوجود حاضنة عريضة وقوية الحضور، والتي تسندهم أمام المعسكر الآخر، الانهزامي المتردد، المتمثل في الأنظمة وحاشيتها.
بالنسبة لأبناء ذلك الجيل، كان الشعار الحاكِم الآمِل الناجي من اليأس، هو ما لخصه ناجي أيضاً: “هكذا أفهم الصراع: أن نصلب قاماتنا كالرماح ولا نتعب”. وكانت القضية تُفهم على أنها وجودية، لا أقل: “أن نكون أو لا نكون، التحدي قائم والمسؤولية تاريخية”. وكان النضال الوطني غير منفصل عن الطبقي: “أنا متهم بالانحياز، وتلك تهمةٌ لا أنفيها. أنـا منحاز لمن هم ‘تحت’”. لكن تعاقب الهزائم وشراسة الهجمة كسرت الكثير من الرماح وأتعبتنا. الشعارات لم تعد هي الشعارات، والتصريحات لم تعد التصريحات.
اليوم ثمة “سلام الشجعان”، و”صفَد ليست لنا”، و”التعاون الأمني مع إسرائيل مقدس”. والناس شتات، ولا مَن يلمّ الشتات!