مقالات

دروس مستخلصة من ملحمة صمود غزة… القائد الأسير أحمد سعدات

الثورة تعلّم ، يقول فلاديمير إ. لينين، ففي الزمن الثوري العاصف النوعي، حين تكون الجماهير خلف المتاريس، في هذا الوضع الثوري تتعلم في أيام معدودة أضعاف ما تتعلمه في سنوات، والثورة لا تعلم قواها الشعبية الدافعة وحسب بل تعرض أيضاً حقائقها لحسم الجدال الدائر حول أهميتها على منتقديها أو خصومها.

وارتباطاً بعنوان هذا النص فإن جماهير شعبنا تعلمت الكثير من الخبرة والدروس الأمر الذي يدفعنا إلى إعادة التأكيد على ما تعلمته من ملاحم الصمود الفلسطيني في محطات الثورة المتعاقبة، وإن شئنا الإمساك بمتن العنوان نقول أن الثورة تُعلّم من لم يتعلم بعد بمعزل عن موقعه في الهرم السياسي الاجتماعي، ومن لا يريد التعلم تفرض نفسها عليه وعلى أجندته وتجبره على مجاراتها والخضوع لقوانينها إذا أراد أن لا يتجاوزه التاريخ…

وقبل الدخول في عملية استخلاص العبر والدروس أو إعادة التأكيد عليها وعلى قيم الثورة لابد من التوضيح أن الأسباب الحقيقة للعدوان على شعبنا لم تكن اختطاف المستوطنين الثلاثة، بقدر ما كان هذا الأمر ذريعة اختبأت خلفها الحكومة الصهيونية، كما لا يكفي القول أن طبيعة الكيان الصهيوني والدور الوظيفي المرتبط بالمصالح العليا للامبريالية الذي يؤديه في المنطقة هو السبب، وإن كان هذا العامل يشكل الأساس والجوهر لكنه يتجلى في كل محطة تاريخية بمظاهر متنوعة مرتبطة مباشرة بمستوى الصراع وتطوره واحتياجاته في كل وضع راهن.

وإن شئنا تحديد الأسباب الملموسة لتصعيد العدوان الصهيوني على جماهير شعبنا في فلسطين كافة، نقول أن الأزمة المستعصية التي يعيشها كيانه في هذه اللحظة بمظاهرها السياسية والاجتماعية والاقتصادية، سواء تجلت بعلاقتها مع المجتمع الدولي الذي اكتشف منذ زمن زيف شعاراته التي يكثفها شعار ” الحق في الدفاع عن النفس” باعتباره الضحية وليس الجلّاد، بمعنى إيضاح زيف سياساته لقطاعات واسعة من الجماهير الشعبية على امتداد الكون، وليس فقط الدول الامبريالية المهيمنة على القرار السياسي الدولي التي تدرك طبيعة هذه الحقيقة خاصة وأنها من ساهمت بإنتاج ورعاية هذا الكيان الوظيفي وزرعته في قلب المنطقة العربية؛ فالاحتلال سعى لحرف الأنظار عن انتهاكاته وتجاوزاته للأعراف والقوانين الدولية، والتعتيم على مسؤوليته المباشرة في اغلاق كل الأبواب أمام أي تسوية متوازنة تستند إلى قرارات الشرعية الدولية، إضافة لذلك سعيه لإجهاض مقدمات التوافق الفلسطيني الداخلي وإعادة التناقض للداخل الفلسطيني وتكريسه وتعميقه خاصة بعد أن اعترف العالم بحكومة التوافق الوطني بما في ذلك الإدارة الأمريكية.

وإن كانت الهجمة المسعورة النوعية الجديدة في شدة وتيرتها واتساع مداها قد بدأت بالضفة وامتدت إلى الجزء من فلسطين عام 1948 وانقلب السحر على الساحر خاصة بعد التحول النوعي في المزاج والموقف الدولي حسب جرائمه المرتكبة وسلسلة الإجراءات العقابية الجماعية لشعبنا وانفلات غطرسة وعدوان قطعان مستوطنيه واختطاف الفتي المقدسي محمد أبو خضير واحراقه حيّاً، وهذا التحول فرض عليه توسيع عدوانه بإعلان الحرب المفتوحة على المقاومة وعلى جماهير شعبنا في القطاع.

وأخيراً الأزمة المستعصية التي عاشها ويعيشها ائتلافه الحاكم، وارتفاع وتيرة المزايدات بين أطرافه المتشددة والأكثر تشدداً، هذه المبارزة الدورية التي اعتاد أن يدفع شعبنا ضريبتها دماً ودماراً تطال البشر، والشجر والحجر.

وعلى الرغم من حجم الدمار وغزارة الدم المسفوح من أطفالنا ونسائنا وشيوخنا والتخريب المنهجي الحاقد لكل مقومات الحياة في القطاع الباسل، على الرغم من هذه الحقيقة الُمرة التي تفرضها موازين القوى غير المتكافئة بين طرفي الصراع غير أننا نستطيع التأكيد والجزم أيضاً أن حكومة الاحتلال لم تحقق أي من أهدافها المعلنة، وخرج شعبنا الباسل شامخاً مرفوع الرأس، فقد عكس صلابة المقاومة وتطور أداؤها ومستوى استعداداتها وجهوزيتها وفاعلية دورها وقدرتها بالمعنى النسبي على فرض معادلة توازن الردع بينها وبين الاحتلال.

لقد خسر الاحتلال منذ زمن ما يسميه في قاموسه السياسي الهجمي “قوة الردع”، ومحاولته إعادة الاعتبار لهذه المقولة باءت بالفشل الذريع، كما عجز عن إيقاف الصواريخ أو الحد من مداها وتفادي الخسائر النوعية في آلياته وجنوده، أو إخراج الحكومة من أزمتها المستعصية داخل الائتلاف وفي علاقاتها مع جمهور المستوطنين، كما ألحقت جرائمها بحق أبناء شعبنا العزل من أزمتها مع المجتمع الدولي. واتسع نطاق الحصار الدولي المفروض على كيانه العنصري وسياسة حكومته، الأمر الذي تجلى بحجم وسعة التحركات الشعبية الدولية المناصرة لشعبنا والمقاطعة الاقتصادية لمنتوجاته خاصة تلك التي تنتجها المستوطنات، وتسارعت وتائر التركيم لنزع الشرعية عنه.

في نفس الوقت ترسخت الوحدة الشعبية الميدانية لكل قطاعات شعبنا في كل أماكن تواجده بأبهى صورها والتي لم يقلل من شأنها محاولات أجهزة امن السلطة في الضفة قمع واحتجاز الحراك الشعبي المساند ارتباطاً بدورها الوظيفي ومصالح الزمر المنفعية التي تقودها، هذا السلوك الأرعن الذي لفظته الجماهير لتفرض المقاومة المتنوعة لشعبنا معطيات وواقع جديد يؤسس للبناء عليه باتجاه وتفعيل مصادر قوتنا الذاتية للخروج من الأزمة المتوّلدة عبر مناخات الانقسام والمراهنة على المفاوضات العبثية وفق مرجعيات منهج “أوسلو ومشتقاته”.

هذا الواقع الذي يشّكل زخم المواجهة يقودنا لتسجيل أبرز الدروس المستخلصة التي أعاد التأكيد عليها الصمود الاسطوري لشعبنا ومقاومته وهي:

1)     أعادت المواجهة الأخيرة التأكيد على عقم المراهنة على المفاوضات العبثية كطريق ومسلك ومنهج ومرجعيات لتحقيق أهدافنا الوطنية. وبات واضحاً للعيان بالمعطيات التي تفقأ العيون أن العدو الصهيوني ليست لديه أي رؤية سياسية أو مصلحة في تحقيق أي تسوية تستند على قرارات الشرعية الدولية التي تستجيب لحقوق شعبنا الوطنية في العودة وتقرير المصير والاستقلال الوطني الناجز، نهجاّ فيه تعارض منهجي بين طبيعة العدو الاستيطانية الكولونيالية ودوره الوظيفي في خدمة المصالح الامبريالية ومشروعها “الشرق الأوسط الجديد” من جهة، وبين غايات السلام والاستقرار والأمن في المنطقة من جهة اخرى، إن السلام في منظومة مفاهيمه ليس أكثر من فرض رؤيته على شعبنا وعلى المجتمع الدولي واستسلام نقيضه التاريخي وتخليه عن مشروعه الوطني.

2)     أعادت المواجهة الاعتبار لخيار المقاومة كوسيلة لتحقيق أهدافنا الوطنية رغم الظروف المجافية على المستوى الاقليمي والدولي واختلال موازين القوى الفادح لصالح العدو، فهذه الظروف لا يمكنها بأي حال أن تحول دون ممكنات امتلاك القدرة على مقاومة العدوان عندما تتوفر قيادة سياسية صلبة تمتلك العزم، والتصميم على المقاومة، كما أنها لا تستطيع أن تجرد المقاومة من إجبار العدو على الرضوخ لمطالبها، والتعامل معها كرقم صعب لا يمكن القفز عنه أو تجاوزه.

3)     كما أكدت حلقات المواجهة مع العدو سواء مع المقاومة اللبنانية أو الفلسطينية أن المشروع الصهيوني بدأ بالتآكل عبر الانحسار على المستوى الاستراتيجي وأن هزيمة هذا الكيان ليست مستحيلة إذا ما أدرنا معركتنا معه مستندين إلى معرفة وإدراك طبيعته وجوهره وأعدنا بناء مشروعنا الوطني التحريري ونضالنا. استناداً إلى ذلك فقد مضى دون رجعة عصر الانتصارات السريعة والحاسمة والرخيصة التي كان الاحتلال يحققها في حروبه مع الأنظمة العربية الرسمية.

4)     عندما يجري تصحيح موقع الأولويات في لوحة التناقض التي تحكم صراعنا مع العدو، ويأخذ التناقض الرئيسي مع الاحتلال مكانه الطبيعي في جدول أعمال القوى والجماهير تتسع مساحة الوحدة أفقياً وعمودياً، ففي ميادين المواجهة يتحد الجميع ” موالاة” و “معارضة” وتنضج مقدمات الارتقاء بهذه الوحدة إلى مستوى الوحدة الوطنية الديمقراطية المرتكزة إلى قاعدة ” كل البنادق مصوبة إلى صدور الأعداء” وتنحسر الحسابات الفئوية قسراً وطوعاً، فأحد أهم الأسباب الرئيسية للأزمة الفلسطينية، وأزمة المشروع الوطني تمثلت بغياب الديمقراطية وتغليب التناقضات الداخلية الثأرية والصراع الفئوي على السلطة ومغانمها، وبالتالي تراجع التناقض الرئيسي مع الاحتلال العنصري الاستيطاني إلى الوراء.

وإذا ما استعدنا حقيقة أن أحد أهم أسباب تصعيد العدوان وتوسيعه ضد شعبنا هو ضرب مقومات التوافق الوطني وإعادة قوى شعبنا مرة أخرى إلى مربع الانقسام، في هذه الحالة فإن انحراف بوصلة هذه القوة أو تلك عن رؤية هذه الحقيقة وإعادة الأوضاع إلى الوراء يّشكل حماقة تصل إلى درجة التواطؤ على شعبنا وتبديد تضحياته الجسيمة إلى أن يصح القول مقتبسين من القائد الشيوعي يوليوس فوتشيك قوله ” مجرم من أدرك الحقيقة وتخلى عنها” .

5)     أكدت المناخات التي أوجدها الصمود الفلسطيني، أن مقاومة شعبنا هي الطريق المجرب لاستعادة وتأكيد المكانة الدولية للقضية الفلسطينية واحتلالها موقعاً مميزاً رئيسياً في أولويات السياسة الدولية، وليس التماهي مع محددات الامبريالية والدول الكبرى، والنظام العربي الرسمي لإدارة الصراع ” الأزمة” في المنطقة، فالتقدم والاستثمار السياسي عموماً ومستواه تحدده موازين القوى القائمة بين أطراف الصراع، وأن التأثير على القرار السياسي الدولي يتطلب السعي لتعديل موازين القوى القائمة على الأرض لمصلحة المقاومة، وعليه فما أكدته تجربة المقاومة هو سقوط منطق ومنهج ومقولة ” نزع الذرائع” من العدو ومنعه من توظيفها من قبل العدو التي كانت في حقيقتها خلق الذرائع لتبرير التراجع والاستجابة لإملاءات العدو وأمريكا السياسية والأمنية، هذا المنهج الذي قُدّم على مذبحه تنازلات جوهرية قادت بتراكمها إلى تفكيك عناصر البرنامج الوطني وإلى الأزمة التي تعيشها قضيتنا الوطنية اليوم، فالمجتمع الدولي وبشكل خاص الدول الامبريالية المهيمنة على القرار السياسي الدولي تدرك حقائق الصراع بين شعبنا والعدو الصهيوني، كما تتمسك بالدور الوظيفي الذي يؤديه الكيان الصهيوني في خدمة مصالحها في المنطقة، وما ينقصها لتحريك مواقفها ، بشكل جوهري من الصراع ، ليس عدم فهمها لمنطق السياسة الصهيونية بل يجب ان تدرك أن استمرار دعمها المشروع الصهيوني يتعارض موضوعياً مع مصالحها الحيوية، وهذا لن يحدث بدون تغيير موازين القوى على الارض إلى الدرجة التي يمكن فيها أن تؤثر في حسابات هذه الدول وإجبارها على الضغط على الكيان الصهيوني لوقف عدوانه والاستجابة لمطالبنا الوطنية، كما أن الدور والموقف العربي الرسمي وتقدمه وتراجعه في إسناد قضيتنا الوطنية يمليه عليه الموقف الفلسطيني وصلابته. ان للمقاومة الشعبية الفلسطينية مكانة متميزة في وجدان الشعوب العربية التي تخشاها هذه الأنظمة.

هذه أهم الخلاصات التي سجلتها المواجهة الباسلة بين شعبنا وقواه ومقاومته والعدو الصهيوني، وهي ليست جديدة كما أنها ليست خاصة بالنضال الوطني الفلسطيني فحسب، وإن كان لها تجلياتها الملموسة. فهي قواعد عامة يحتكم إليها المنهج السياسي العلمي الثوري في إدارة التناقضات وقيادة الثورات، أي أنها جزءاً من الخبرة السياسية الثورية التي راكمتها التجارب الشعبية للشعوب خاصة في مقاومة الاستعمار ومدى الأهمية التي تكتسبها هذه الدروس تفترض امتلاك الحركة الوطنية الفلسطينية القدرة على تعزيزها والبناء عليها بما يرفع درجة تأثيرها ودفع نضالنا الوطني خطوات إلى الأمام على طريق انجاز الأهداف الوطنية لشعبنا.

وقبل تناول الخطوات الضرورية التي تستلزمها عملية البناء على الانجازات المحققة، لابد من إلقاء نظرة أولية على الكيفية التي أدارت فيها القوى السياسية الحراك السياسي الذي تزامن مع دوي المدافع وأعقبه بالتئام الحوار في القاهرة ومدى تمثلها لهذه الاستخلاصات.

بداية لابد من التأكيد على منطق وحدة المشروع الوطني الفلسطيني وتليه أهدافه المتوخى تحقيقها في ميادين المواجهة الموزعة جغرافياً في غزة أو الضفة أو الجزء المحتل من فلسطين عام 1948 أو في الشتات والمنافي. بمعنى كل مواجهة يجب أن تضع على جدول أعمالها المطالب العامة التي تشّكل مركبات المشروع الوطني الفلسطيني، فالعدوان على شعبنا في أي جزء من فلسطين وخارجها هو اعتداء على مجمل الشعب الفلسطيني بل وعلى الأمة العربية، وعليه فإن أي خطة أو إدارة سياسية لإنهاء هذا العدوان يجب أن ترتبط بإنهائه على عموم الشعب، صحيح أن موازين القوى والموقف الدولي المشّكل ارتباطاتها والمعطيات التي تعززها المواجهة قد لا تساعدنا على تحقيق ذلك، لكن هذا التقرير في هذه اللحظة أو تلك يجب أن لا يسقط وحدة الشعب والأرض والقضية بمعزل عن بقايا الانقسام وترسباته في الواقع الفلسطيني وآثارها على منطق إدارة الحراك السياسي الفلسطيني، وبالقفز عن الموقف الأرعن والمتواطئ لأجهزة أمن سلطة اوسلو في الضفة أو الموقف الرسمي الذي عبّر عنه الرئيس أبو مازن بعد اختطاف المستوطنين الثلاثة والذي صُحح بفعل الضغط الشعبي والمزاج الكادري الفتحاوي المناضل.

وعليه، فإن أي خطة لوقف القتال يجب أن تتجاوز حدود جغرافيا المعركة والمطالب المحقة الخاصة بالقطاع التي هي بالضرورة جزء من المطالب الوطنية العامة، هذه لم يكن بإمكانها فتح الطريق على مسار سياسي جدي لانتهاء الاحتلال. ان الحد الأدنى كان يجب أن يرتبط بتأمين الحماية الدولية المؤقتة لشعبنا على أساس اتفاقات جنيف الرابعة كخطوة نحو الاشراف الدولي المؤقت على المناطق الفلسطينية المحتلة عام 67 بما في ذلك القدس ولفترة زمنية محددة يتم خلالها تمكين شعبنا من حماية حقه في تقرير المصير وبناء دولته المستقلة الديمقراطية والإفراج عن الأسرى كافة دون ربط هذه المسألة بتبادل الجثامين أو الأسرى إن وجد أسرى أحياء من جنود الاحتلال.

وبمعزل عن قدرتنا على تحقيق هذه المطالب العامة من خلال موازين القوى المتشكلة في ميدان المواجهة. على الرغم من ذلك يجب أن تبقى هذه المطالب العامة حاضرة في محطة التفاوض من أجل تحقيق الهدنة، أو وقف القتال وقد لا نستطيع تحقيقه في هذه الجولة أو تلك، نتابع النضال من أجل تحقيقها في محطات قادمة وفي إطار إدارة الاشتباك السياسي مع العدو في المحافل الدولية، ومع تقديري للموقف الصائب الذي اتخذته قوى المقاومة برفض المبادرة المصرية ، في صيغتها الأولى ، سواء في ما تضمنته من شروط أو في آليات طرحها الذي تأثر بعلاقاتها المتوترة مع الإخوان المسلمين وحركة حماس، مع تقديري لهذا الموقف الصائب ، فقد نسيت كل من فتح وحماس ضرورات انعكاس معطيات المصالحة الوطنية على وحدة الموقف الفلسطيني. نسي الأخ الرئيس أن هناك خطوات انتقالية نحو الوحدة وبأن مرجعيته للقرار الوطني لا تكفي في غياب موقف المقاومة، والإطار الأكثر تعبيراً عن الوحدة ووحدة الموقف والقرار هو الإطار القيادي المؤقت لـ م. ت. ف، وتسرع بقبول المبادرة المصرية قبل التشاور الجماعي في الإطار أو صيغة تعبر عنه. كما نسي الأخوة في حركة حماس أنه بإقرار حكومة التوافق الوطني وممارسة دورها فإن طرح المبادرة على الأخ الرئيس دون الاتصال المباشر معها لا يعد تجاوزاً لها ولا يبرر رد الفعل الانفعالي حيال المبادرة المصرية والبحث عن وسطاء في الإقليم كتركيا وقطر في ظل مناخات التجاذب بينهما وبين مصر!

ومع أن هذا الوضع أخذ طريقه للتصويب وانتقلت مسؤولية التفاوض إلى المرجعية الطبيعية ، القيادة الجماعية التي يمثلها الاطار القيادي المؤقت للمنظمة ، لكن هذه المسألة أخذت وقتاً طويلاً في ظل التجاذبات متعددة الوجوه الموجودة في الإقليم وبين حماس ومصر، وكان بالإمكان كسب الوقت والجهد وتقديم موقفاً أشمل على طاولة المفاوضات تعكس مركبات وحدة القضية الفلسطينية. أما مصر التي تدرك المزايا التي تستمدها من الجغرافيا ومن خلال تحكمها بأهم معبر يربط قطاع غزة مع الخارج، فقد نسيت شعارات رئيسها الانتخابية بالعودة بمصر لتحّمل مسؤولياتها العربية ودورها كما في الحقبة الناصرية، فقد كانت في دورها وأدائها أقل من هذه الشعارات وصاغت مواقفها محكومة بخلافاتها مع الإخوان المسلمين وحركة حماس وطرحت مبادرتها دون إعطاء فرصة للفريق الفلسطيني للتفاوض الثنائي معها، أعطى التصميم المصري على نصوص مبادرته إلى إعطاء الوقت الكافي “لإسرائيل” من خلال موافقتها التكتيكية على المبادرة لتجنيد الموقف الدولي المساند لها وحشر الشعب الفلسطيني وقيادته في الزاوية وليس فقط حركة حماس، وكان عليها ( مصر ) أن تفصل بين صراعها مع الإخوان المسلمين والموقف الذي يتطلع لأن تأخذه مصر التي تمثل مركز الثقل العربي في المنطقة، الأمر الذي من شأنه المساس بمصداقية شعاراتها في الممارسة .

ومع تقديرنا لأي جهد قامت به القيادة المصرية غير أن موقفها لم يرقى إلى المستوى الذي تطمح إليه الأمة العربية والشعب الفلسطيني بوجه خاص ونرى أن الباب لا زال مفتوحاً لتأكيد دور مصر القوي الطامح إلى إعادة الاعتبار لنضال الأمة في مواجهة “اسرائيل” والامبريالية ومشاريعها بشكل عام.

في كل الأحوال، فإن ما مثلته مفاوضات القاهرة من نموذج لإسناد الحق بالقوة عبرّ عن تقدم في الأداء السياسي الفلسطيني نأمل أن يعكس نفسه على الموقف السياسي العام في إدارة الصراع مع الكيان الصهيوني، هذا إذا لم يحبط هذا الطموح بالعودة إلى مربع الانقسام من خلال المناكفات التي بدأت تظهر على السطح وتصدرت واجهة الإعلام بين فتح وحماس، وحول قضايا هامشية، فلا يعقل أن يكون موضوع صرف رواتب الموظفين في حكومة حماس السابقة مادة تفجر ما تم انجازه ، كما لا يعقل أن تبقى الضغوطات الخارجية على السلطة في رام الله عاملاً يعيق استكمال أجندة الوحدة في هذه اللحظة الحرجة التي تمر فيها قضيتنا الوطنية، وعليه فإن التوافقات الفلسطينية الداخلية يجب أن تخرج من إطار حصرها بتبادل المصالح بين طرفي الصراع على السلطة والقيادة والحرب الباردة والمناورات التي يستهدف فيها هذا الفريق أو ذاك حشر الآخر في الزاوية، إن الوحدة الوطنية تعني قبل كل شيء إئتلاف و ميثاق للشراكة السياسية الوطنية الديمقراطية والتي بدونها لا نستطيع توفير أسباب التقدم والانتصار.

والآن وبعد استعراض الخلاصات والدروس التي أعيد التأكيد عليها في المواجهة النوعية مع العدو الصهيوني. فما الذي ينبغي عمله للبناء على ما تم تحقيقه وما هي الخطة السياسية الفلسطينية الموحدة للاستثمار السياسي والنضالي لهذه الانجازات لتطويرها ودفع ثورتنا إلى الأمام ووضعها على الطريق التي تقود إلى تحقيق أهدافنا الوطنية؟

إن التغيير المطلوب لتصويب نضالنا الوطني ليس شكلياً بل منهجياً ذو طبيعة إستراتيجية، فإن ما هو مطلوب بشكل محدد وقاطع هو العودة بالصراع إلى منطقه وطبيعته التاريخية، كتناقض بين الحركة الوطنية الفلسطينية والقومية العربية والمشروع الصهيوني الكولنيالي الاستيطاني العنصري، بكل ما يتطلبه ذلك من تغير بالأهداف المعلنة ( ما يسمى حل الدولتين) وإنهاء الاتفاقات الموقعة، وإعادة الاعتبار للميثاق الوطني بعد تحديثه وتطويره والمطالبة بحقوقنا التاريخية والوطنية، وإعادة الاعتبار لوحدة الأرض والشعب والهوية والمصير، وإنجاز الحل الديمقراطي الشامل لهذا التناقض التاريخي في إطار دولة فلسطينية ديمقراطية واحدة، ومع أهميته إلى حين إجراء هذا التغير فإن عدم التوافق الفلسطيني العام على هذه الرؤية، وعدم القدرة من جهة أخرى على الاستدارة المفاجئة بالأهداف والشعارات واستمرار الاحتفاظ بالتأييد الدولي الذي نخطى به اليوم وغياب المؤسسة الجامعة الديمقراطية التي تعبر عن وحدة شعبنا، حيث تحتاج م. ت. ف. لإعادة بناء ديموقراطي شامل، فهي المؤسسة التي ستكون مؤهلة لإقرار هذه الرؤية. كل ذلك يجعل ما سبق غير ممكن اليوم ويدعونا للتروي واشتقاق مهام تشّكل مقدمات لإجراء هذا التحّول والانقلاب الجذري في المفاهيم التي تشكل منظومة متكاملة لإدارة الصراع مع العدو، وعليه فإن المهام الوطنية المطروحة علينا اليوم بإلحاح هي:

أولاً: وقف المراهنة على المفاوضات العبثية وفق مرجعيات مدريد – أوسلو والإعلان عن فشلها وتحميل المسؤولية عن ذلك للعدو الصهيوني وأميركا والتوجه إلى الأمم المتحدة ومطالبتها بتحمل مسؤولياتها بإلزام “إسرائيل” بتنفيذ قرارات الشرعية الدولية، أو المبادرة لتأمين الحماية الدولية المؤقتة لشعبنا على أساس اتفاقيات جنيف وبشكل خاص الرابعة والثالثة، ووضع الأرض المحتلة تحت الإشراف الدولي المؤقت لفترة زمنية مؤقتة ومحدودة يمارس شعبنا خلالها حقه في تقرير المصير وبناء مؤسسات دولته المستقلة والديمقراطية، ومن الطبيعي أن يشمل هذا الإعلان إنهاء المرحلة الانتقالية ووقف كل أشكال العلاقات والتعاون مع دولة الاحتلال وفي مقدمتها التنسيق الأمني.

وبالتوازي مع هذا الإعلان الانضمام إلى كل الاتفاقيات والمنظمات الدولية بما في ذلك محكمة الجنايات الدولية في إطار عملية إدارة الاشتباك السياسي مع الاحتلال في المحافل الدولية، والسعي لمحاصرة سياساته على طريق نزع الشرعية عن كيانه الكولونيالي العنصري.

في هذا السياق الموقف الذي أعلنه الرئيس أبو مازن وأرسله إلى الإدارة الأمريكية وناقشه مع اللجنة العربية هذا الموقف الذي دعا فيه إلى “إجراء مفاوضات لمدة تسعة أشهر تقتصر على إنهاء مسألة الحدود، مرفقاً بهذا الطلب بعض الاستحقاقات كالإفراج عن الدفعة الرابعة وعدد آخر من المعتقلين ووقف الاستيطان أو تجميده طيلة هذه الفترة وإذا لم تستجب “اسرائيل” لهذه الدعوة خلال مدة أقصاها شهر فإن على “اسرائيل” أن تتحمل مسؤوليتها كقوة احتلال، والعبارات الأخيرة على أهميتها فإنها لم تحدد بالملموس كيف ستتحمل “اسرائيل” مسؤولياتها كقوة احتلال مع الإعلان المسبق عدم وجود نوايا لحل السلطة أو غيرها من الاستحقاقات، هذا التوجه هو صيغة جديدة تراوح في إطار استمرار المراهنة على نهج المفاوضات وبذات الأسلوب والمرجعية غير النزيهة لأمريكا بل المنحازة إلى الموقف الاسرائيلي في المواقف والأهداف الصهيونية حول القدس والعودة والحدود، وكان الأنسب المطالبة بنقل ملف القضية إلى الأمم المتحدة ليتحمل المجتمع الدولي مسؤولياته بإلزام “اسرائيل” باحترام وتطبيق القانون الدولي وقرارات الشرعية الدولية .

في نفس السياق أيضاً وإذا فرضنا أن الموقف الفلسطيني ليس مجرد مناورة تستهدف تحسين شروط التفاوض وامتصاص الاحتقان والمزاج الشعبي الرافض للعودة إليها، ولو افترضنا جدية الموقف الفلسطيني، فإن المطلوب من القيادة الفلسطينية التهيؤ المسبق لنقل مقر السلطة الوطنية إلى غزة بعد تعجيل استحقاقات استكمال الوحدة، والمطالبة بإنهاء الاحتلال كليا ًعن القطاع، دون الخوف أو الحزن المستمر بأن من شأن هذه الخطوة الفصل بين الضفة والقطاع، لأن الفصل الجغرافي قائم بالأصل، والارتباط بين شطري السلطة قائماً من خلال المشروع الوطني الفلسطيني والإدارة القيادية الموحدة للشعب الفلسطيني في كل اماكن تواجده، إن ضمانات أن لا يشكل هذا الطرح خطوة إلى الوراء هو تحقيق الوحدة الوطنية القائمة على الشراكة السياسية الوطنية الديمقراطية بعيداً عن الحسابات الفئوية. إن انهاء الاحتلال كلياً عن قطاع غزة لن يكون عائقاً أمام استمرار النضال لتحرير الضفة بل يشكل حافزاً وتصويباً لمنهج إدارة الصراع الوطني ضد الاحتلال ومشروعه الكلونيالي الاستيطاني العنصري.

ثانياً: تطوير التوافق الوطني الفلسطيني الراهن وانجاز مهام المرحلة الانتقالية التي نصت عليها أوراق التوافقات الفلسطينية المتعاقبة وفي مركزها إعادة بناء م. ت. ف بمشاركة كل ألوان الطيف السياسي والاجتماعي بطريقة ديمقراطية ووفق آلية الانتخابات الديمقراطية حيثما أمكن بما يوفر وحدة القيادة والمرجعية والقرار الوطني وينهي فصلاً طويلاً من التفرد في القرار الوطني، والخطوة المطلوبة بهذا الاتجاه تكريس الإطار القيادي لمؤقت لقيادة مؤقتة م. ت. ف ومرجعية سياسية حتى تتم عملية بناء م. ت. ف وانتخاب مؤسساتها القيادية . وحتى لا تبقى هذه المهمة المفصلية في إطار الدعوات التبشيرية والنقد الصامت على محاولات مراكز القوى المستفيدة من حالة الانقسام لنسف ما تحقق من مقدمات ينبغي تشكيل أوسع اصطفاف شعبي ضاغط وإثبات حضوره في الشارع لفرملة محاولات هذه الشرائح لاجهاض مسار تحقيق الوحدة.

ثالثاً: إعادة صياغة البرنامج الوطني الفلسطيني الموحد بالارتكاز إلى خيار المقاومة كرافعة جوهرية ورئيسية لتحقيق أهدافنا الوطنية وإطلاق طاقات شعبنا الكفاحية في كل أماكن تواجده والتوافق الوطني على رؤية موحدة للمقاومة بمعنى الأسلوب الرئيسي للمقاومة في الظرف الراهن دون مقابلة شكل أو أسلوب بأخر وتعزيز الطابع الشعبي الديمقراطي للنضال الذي يفتح الباب لأوسع مشاركة شعبية في فعاليات المقاومة، والعمل على بناء أدواتها التنظيمية في الضفة والقطاع والداخل والشتات.

هذه أبرز المهام التي تطرح نفسها بإلحاح على الحركة الوطنية الفلسطينية في الظرف الراهن، وهي التي تمكّن شعبنا من مغادرة حالة المراوحة في المكان وشق طريق النهوض الوطني العام وهي تحتاج لتحقيقها للضغط الشعبي الفاعل على أصحاب القرار في م. ت.ف لحماية أهدافنا الوطنية في هذه الظروف المجافية لنضالنا الوطني.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى