حنا مينه: أنا الحديدة التي تفلوذت بالنار
روائي البحر العربي الأوحد؛ ربما. لم يسبق وأن قرأ العرب رواية بطلها البحر، إلا بقلم حنا مينه. بقي البحر غريبا عن العرب، وبقيت حكاياته تزخر بالخرافة والأساطير، دون أن يلمسها الروائيون، ويلقون في أعماقها أرواحهم، لتقترب منها. لكن مينه أحضره لنا، وعلمنا طقوسه.
ومينه، الذي أرّخ للبحر، كتبه كما يكتب عن حبيبته، انشغل بتلك الزرقة، يرصد واقع الفقراء، ويتلمس حياتهم، ويتغلغل في تفاصيلها، وهو الذي خرج من بينهم، معوزا مضطهدا، عايش أقسى لحظات الجوع والفاقة، فنقل تلك التجربة المريرة على أمواج سفنه، وفي قلب بحاره التي تتعدد كما تتعدد رواياته وكتبه. حين رحل مينة قبل أيام، لم يترك لرواية البحر العربية وريثا. وإذ نودع جثمانه تبقى أغانيه الخالدة منذ روايته الأعذب “المصابيح الزرق” التي صدرت عام 1954، مرورا بـ”الشراع والعاصفة” و”الثلج يأتي من النافذة”، و”الشمس في يوم غائم”، و”الياطر”، و”بقايا صور” و”المستنقع” و”حكاية بحار” و”الدَّقل” و”نهاية رجل شجاع” حتى “الأرقش والغجرية” التي كتبها عام 2006، نقف محملين بالأسئلة حول هذا المدهش في الكتابة والحياة، لكن السؤال الأبلغ يبقى: هل كتب مينة حياته، نقلها لنا في أكثر من 44 كتابا، تنوعت بين الرواية والمقالة والدراسة؟
كل كاتب يكتب ذاته في لحظة ما. هذا ما يقوله نقاد كثيرون، ولعل مينة، عاش هذه اللحظة ال”ما” كاملة، فقدم حياته لنا فيها.
كان أحد أوائل الروائيين الذين هجموا على الواقعية الاجتماعية، لم يكن ابن مدرسة نقدية، ولا ابن شلة ثقافية لتقدمه للعالم، ولا صاحب نفوذ، لكن حين خرج من الهجوم مظفرا دون ان يعلم ماهية هذه الواقعية التي تجسدت في أعماله، أصبح ايضا احد أبرز الروائيين العرب في القرن العشرين.
توفي في دمشق بعد 94 عاما، ولد لعائلة فقيرة فقرا مدقعا في التاسع من أذار 1924 في اللاذقية، ثم انتقل مع عائلته للواء الاسكندرونة المحتل من تركيا فالسويدية ومن ثم الى الإسكندرونة ليعيش في حي “المستنقع”، ويبدأ بتلقي تعلميه الابتدائي، بعدها أوقف دراسته لفقر عائلته.
عاش حافيا، يعمل حمالاً في الميناء، وأحياناً بائعاً للحلوى، ومزارعا، وغالبا ما كان يرحل باحثاً عن عمل، لتبقى الأم تعاني مع أطفالها من الخوف والجوع، فبدأ مينة العمل في سن مبكرة.
أمضى سنواته المبكرة “مع بعض أطفال المدرسة بالخدمة في الكنيسة”، فانتقلت هذه التجربة القاسية الى أدبه “كنت أعاني البطالة والغربة والفقر والجوع وأحسد الكلب لأن له مأوى”. عمل أجيراً، وحين اقتطعت تركيا لواء الاسكندرونة، هرب في السادسة عشر إلى اللاذقية، وكان التحق بالعمل الحزبي في الثانية عشرة من عمره، وناضل ضد الانتداب الفرنسي، وعند وصوله اللاذقية عمل حمّالاً في الميناء، وأسهم بتأسيس نقابات عمالية.
عمل بحارا، وحلاقا، ثم في عام 1948 رحل إلى بيروت، بعدها استقر في دمشق، وكتب روايته “المصابيح الزرق”، وعمل في جريدة الإنشاء ليصبح رئيس تحريرها.
شغف بالماركسية، وجسد معاناة العمال في عدد من رواياته، ونقل تجربة احتلال الاسكندرونة الى كتبه.
نصف قرن من العمل كاتبا، هي تقريبا بعدد كتبه فقد “أمضى حياته كلها في الكتابة عن الطرق التي يمكن من خلالها تحقيق العدالة الاجتماعية في سوريا”. وهو ما جسد تفاصيله حين كتب عن البحر والعمال، وقد انتقلت أعماله للشاشة السينمائية وتحولت الى مسلسلات تلفزيونية، وكانت روايته الأشهر “الشراع والعاصفة”، نموذجا حيا لتجربة فذة وحيوية، ظلت متوقدة وهي تعيد صياغة الساحل السوري بروح فتى كان يصنع من الركض على الرمال أحلامه فيه.
أسهم مينه بتأسيس اتحاد الكتاب السوريين عام 1951، واتحاد الكتاب العرب في أواخر الستينيات، وله العديد من النشاطات، لكنه بقي في سني حياته الاخيرة ينحو بروحه وبنفسه للانطواء، منشغلا بكتابته، ومشغوفا بهدأة روحه وعوالمه الروائية.
رحل تاركا وصية، تنم عن شخصية فذة، اهتدت الى طريقها دون ان تبدو ممتعضة من حياة عاشتها بكل آلامها وجمالها. مخلفا وراءه إرثا سيبقى حافلا بتاريخ البحر والثورة والكفاح.