حلم مانديلا.. الذي لم يكتمل بعد
منذ ثلاثين عاماً، تم تحرير السجين السياسي الاكثر شهرة في العالم بعد فترة اعتقال دامت 27 عاما. الحشود الجماهيرية التي خرجت لاستقباله كانت كبيرة جداً، وعمت أحاسيس الفرح والفخار جنوب أفريقيا وامتدت إلى كافة انحاء العالم، هذا الانعتاق من الاسر سمح لجنوب أفريقيا أن تحتل مكانتها المستحقة بين الدول وتلعب دورها كاملاً.
نقف اليوم لنرى ماذا حل بإرث الاسطورة مانديلا وأين وصلت جمهورية جنوب أفريقيا. هل رأى حلم مانديلا بدولة متعددة مصالحة، النور، أم أن بصمة الابارتيد مازالت ماثلة في تلك الاراضي الخصبة ؟ أين نقف اليوم في قارة تشهد كثيرا من الصراعات الصعبة،
نشأ مانديلا في بلد متنوع وثري في أرضه ومجتمعه، وقد ترك التاريخ هناك آثارا عميقة على تراب وطني منقسم بشدة، واستقطاب اجتماعي حاد طغى عليه غياب العدالة، وتجذر التفاوت الطبقي والعرقي العميق.
ولد نلسون مانديلا في العام 1918. في طفولته المبكرة تفتح وعيه على بلد منقسم بشدة، وتكرست هذه الصورة في شبابه عندما كان طالبا في الجامعة، وخبر الإذلال والترويع من نظام الابارتيد العنصري المهيمن على البلاد. الفصل يتم في كل مكان وفي جميع القطاعات؛ المواصلات منقسمة بين البيض والسود، يمنع على السود صعود الحافلات المخصصة للبيض، أما تلك المخصصة للسود، فعددها قليل وفي حالة مزرية، حتى مواقف الحافلات ومحطات القطارات والقاطرات مقسومة على أساس عنصري.
المنشآت الرسمية بمدخلين منفصلين، يتم من خلالها إذلال السود على المداخل المخصصة لهم. في كل مساء على ملايين السود مغادرة المدن الكبرى والعودة إلى غيتوهاتهم ،عمال وموظفين وطلاب يتزاحمون قبل حلول الليل، ولا يبقى إلا خدم البيوت. سياسة الفصل العنصري، تفرض بالقوة من قبل حكومة بريتوريا، وعندما يحتج السود على الظلم ويتظاهرون، كانوا يتعرضون إلى القمع بوحشية، ويسقط المئات برصاص أجهزة القمع.
مانديلا المتمرد والثائر والسجين، واكب نضالات شعبه، وأسهم في تأسيس حزب المؤتمر الوطني الافريقي وترأس الجناح المسلح للحزب. عام 1963 حكم عليه بالسجن مدى الحياة نتيجة لنشاطاته الثورية، ولكنه واصل كفاحه من داخل المنفى والسجن، وتحول إلى رمز فذ في النضال ضد الابارتيد.
بشخصيته الاخاذة، وصموده على مبادئه وإيمانه بعدالة قضيته، تحول إلى أيقونة كونية في النضال ضد العنصرية ومن أجل الاستقلال. في نهاية سنوات الثمانينات، تحرك العالم خاصة في أوساط المثقفين والطلاب والنقابات العمالية، في حملات مناصرة لمناديلا وشعب جنوب أفريقيا، نضالات توجت بسقوط نظام الابارتيد واطلاق حرية “ماديبا” حيث تحول إلى بطل افريقي. بعد تحريره في 11 شباط 1990 ، سار مانديلا أولي خطوات الحرية إلى جانب زوجته، وألقي خطابه الأول في استاد سوهيتو وسط حضور جماهيري حاشد، وأكد : “يجب أن نستمر بالنضال حتى إلغاء الابارتيد من جنوب افريقيا.. نحن ضد كل هيمنة سوداء، كما كنا دوما معارضين للهيمنة البيضاء”.
بعد أربع سنوات من تحريره، أصبح مانديلا أول رئيس أسود لجنوب أفريقيا، ويحسب له بأنه منع وقوع الحرب الاهلية في البلاد، والتي كانت متوقعة من الكثيرين. إنضمت جنوب أفريقيا إلى الأمم المتحدة، وتحولت إلى دولة صاعدة تلعب دوراً مؤثراً في كل أفريقيا، وانطلق مانديلا في نضاله ضد الايدز والفساد والفقر. حصل على عشرات الجوائز، بينها جائزة نوبل للسلام. تدرجت الأسطورة، وتكرست شخصيته كحكيم محباً للسلام، ومثلا يحتذى في البناء الديمقراطي، وشخصية توافقية خلال حقبة الحرب الباردة وبعدها، ومناصرا قويا لحركات التحرر وخاصة القضية الفلسطينية. توجه بسياساته السلمية إلى بورندي وساحل العاج والسودان، وطالب في بلاده بتوزيع 30% من الاراضي على المزارعين.
بعد سبع سنوات على غيابه، أين وصل حلم مانديلا؟ بالتأكيد جنوب أفريقيا ما زالت تعتبر القوة الاقتصادية الأهم في أفريقيا وتمتلك فرصا أكثر مما كان متوفرا منذ 30 عاما، وما زالت تلعب دوراً تصالحيا هاماً في السياسات الافريقية، كما في ليبيا والسودان، وبين أثيوبيا ومصر حول سد النهضة، كما تضع سياساتها في خدمة نموها واقتصادها الذي يعتبر الثاني من حيث القوة بعد نيجيريا وقبل مصر.
وتعتبر المنتج الاول في العالم للبلاتين وثاني منتج للذهب في القارة، بينما تمتلك اكثر الالماس ندرة في العالم، وتمثل المعادن والاملاح 26% من صادرات البلاد، وتبيع حوالي 48% من الانتاج المصنع والآلات والكيماويات.
ميناء ديربان هو الثاني افريقيا، وتمتلك خدمة مصرفية متنوعة ومتقدمة، وسياحة مزدرهة وخدمة اتصالات تتجاوز حدود البلد. اقتصاد قوي يفرض حضوره في العالم، وهي العضو الافريقي الوحيد في مجموعة G2O والبركس وشاركت بقوة في الاتحاد الافريقي رغم أن نسبة النمو عندها لا تتجاوز 0.8% عام 2018. تحاول السلطة هناك مسح بصمات الاباريتيد خاصة في التجمعات السكانية الكبيرة، وتبذل محاولات متواصلة لفكفكة التشريعات العنصرية للنظام، دون أن تقطع خطوات حقيقية في تفكيك أكثر نجاعة لعنصرية النظام وفضاءاتها الجغرافية.
حلم مانديلا في الدمج المجتمعي ما يزال يراوح مكانه، والفصل العنصري ما يزال ملموسا بين الطبقات الفقيرة والوسطى، وأن كان أقل حدة في الفضاء العام والاسواق.
مع الفقر المعمم، هناك مشكلة العنف التي تقتل حوالي 57 مواطنا يومياً. كيب تاون، أحد أحياء سويتو والذي بني للعمال السود ما يزال قائما ويعاني من الحرمان من مياه الشرب، وعدم وصول التيار الكهربائي رغم الاستثمارات الكبيرة.
بعد 30 سنة على انتهاء الاباريتيد رسميا، الفصل على الارض ما يزال قائما في الاحياء المحمية والمؤمنة في جيهانسبورغ والكاب وبريتوريا حيث يتجمع البيض. وعد مانديلا في توزيع الاراضي ما يزال لم يرى النور بذريعة أن المزارع الكبيرة والتي تمتلكها الاسر من أصول اوروبية وتديرها شركات كبيرة، توفر فرصا اقتصادية هامة جداً لجنوب افريقيا، وتعزز من أمنها الغذائي، وأن تقسيمها من شأنه أن ينعكس سلبا على التوظيف والاقتصاد!
البيض الذين يشكلون 8% من عدد السكان، يمتلكون 72% من الاراضي الزراعية في حين أن السود والذين يمثلون 81% من السكان لا يمتلكون إلا 4% من الاراضي، وفي مناطق المعازل العنصرية السابقة ما يزال يعيش أعداد كبيرة من السود الفقراء.
رغم الصعود النخبوي لأثرياء سود، إلا أن التفاوت الاجتماعي لم يكن يوما بهذا العمق، مواطن من كل اثنين يعيش بأقل من دولارين يوميا.
الابيض ما يزال يكسب 3 أضعاف ما يكسبه الاسود. 50% من الشبان السود يعانون من البطالة مقابل 7% من البيض. البنك الدولي يصف جنوب افريقيا: من بين اكثر الدول تفاوتاً في العالم!
رغم حالات الانقسام المجتمعي، ونسب الفساد العالية، إلا أن روح مانديلا ما تزال تخيم على المكان والفضاء الاجتماعي، وحزب مانديلا يحافظ على سيطرة على الحكم لفترة امتدت لاكثر من 25 سنة متئكا على تراث قائده التاريخي.
شخصية مانديلا الاخاذة، منحت هذا الحزب شرعيته التاريخية الكفاحية، وصانت المكتسبات الاجتماعية التي تحققت فترة حكمه، ولم يستطع أحد الاقتراب من نظام التقاعد المتقدم، والتغطية الاجتماعية الواعدة، وصيانة حدا جيدا من السلم الأخلي في المجتمع والحياة السياسية.
البلد يعاني من صعوبات كبيرة، وقضايا معقدة لم تجد لها حلولا، ولكن الامل ما يزال منعقداً، وجنوب افريقيا بإمكانياتها المادية والبشرية، ما زالت تنتظر تحقيق حلم مانديلا بوطن “قوس قزح” المتنوع والثري، والذي حقق سقوط الابارتيد، وسجل أحداثاً كبيرة مثل الحصول على كأس العالم في الرغبي، وتنظيم رائع لكأس العالم لكرة القدم.
رصيد كبير تمتلكه جنوب افريقيا لتحقيق حلمها بالعدالة والمساواة والتنمية، وتجربة مانديلا الفذة، ماثلة على الارض وفي الوجدان.