حتى تحقق الثورات العربية اهدافها لا بد من مواجهة الليبرالية الغربية الفجة…سمير امين
للرأي العام السائد فى الغرب نظرة مبتورة لما يوصف بالعولمة البديلة. وتظل أغلبية الحركات الاجتماعية التي تطرح هذا البديل ليحل محل نمط العولمة الليبرالية الفجة، تظل مقتنعة بأن هذا المطلب ظهر حديثا، أكان بمناسبة مؤتمر سياتل أم عند أول اجتماع للمنتدى الاجتماعي العالمى فى بورتو اليجرى عام 2001.وتعتمد هذه القناعة على تصور العولمة بصفتها ظاهرة حديثة.
لا أشارك هذه النظرة، بل أزعم أن الأغلبية الكبرى من شعوب الكوكب لم تتجاهل قدم ظاهرة العولمة، خاصة في الجنوب. ألم تكن الكولونيالية التي عانت منها شعوب القارات الثلاث نمطا من العولمة؟ ألم تكن مشروعات التنمية التي طورتها دول الجنوب بعد الحرب العالمية الثانية هي الأخرى ظواهر انخرطت في منظور للعولمة المطلوب إصلاحها؟
لعل نمط العولمة قد اختلف من حقبة تاريخية إلى أخرى، إلا أن الظاهرة فى حد ذاتها ليست جديدة. وبالتالي ليست المعارضة في مواجهتها هي الأخرى ظاهرة جديدة. فلم ينتظر النضال من أجل عولمة بديلة اجتماع سياتل لكي يكون فاعلا!
ألم تكن الثورات التى وصفت نفسها بأنها اشتراكية قد أعلنت طموحها فى بناء نظام عالمى جديد؟ فلم تدع هذه الثورات إلى ثورة اجتماعية _ تجاوز حدود الرأسمالية_ فحسب، بل شملت أيضاً منظورا آخر للعولمة، قائما على التحرر من تحكم الاستعمار. وقد افترض مفهوم التعايش السلمي ذلك الطرح فى عولمة قائمة على احترام تعددية النظم الوطنية.
وقد أعلن زعماء الجنوب في مؤتمر باندونج عام 1955 تشكيل عولمة بديلة هدفا لنضالهم، فقصدوا نمطا جديدا قائما على احترام استقلال دولهم، واحترام حقها فى اختيار طرق التنمية الملائمة لها_ اوتلك الطرق التي رآها هؤلاء الزعماء ملائمة. فدخل السعي نحو بناء عولمة متعددة الأطراف في تعارض صريح مع المفهوم الغربي الذي يسعى إلى تكريس توسع الإمبريالية عالمياً ولاغبر.
أضيف إلى ذلك أن الدول العربية_ لا سيما مصر وسوريا والعراق والجزائر_ قد بذلت مجهوداً منهجياً في بناء حركة عالمثالثية من اجل عولمة بديلة. فكانت الناصرية والبعثية واعية تمام الوعي لهذا الوجه من التحدي. ومن ثم فبالنسبة إلينا على الأقل ليست الحركة من اجل عولمة بديلة شيئاً جديداً.
وطبقا للخطاب السائد حالياً في وسائل الإعلام طبعت الحقبة التاريخية التي تلت الحرب العالمية الثانية بطابع “ثنائية القطبية في إطارالحرب الباردة”.
وعلى نقيض هذا القول أزعم أن خلال نصف القرن الممتد من 1945 الى 1980/1990 ساد نظام عالي متعدد القطبية سياسيا الى جانب الثنائية في المجال العسكرى. فلم يكن الفاعلون في الساحة الدولية اثنين فقط (الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي) بل اربع مجموعات هى:
-التحالف الإمبريالي المشكل من الولايات المتحدة واوروبا واليابان، والمنظم عسكريا في الحلف الأطلسى ، بقيادة امريكية.
-الاتحاد السوفياتي وحلفاؤه في شرق أوربا.
-الصين التي حافظت دائماً على استقلال قرارها في الشئون الدولية.
-كتلة دول عدم الانحياز التي ضمت معظم دول آسيا وإفريقيا وكوبا.
نعم. طويت هذه الصفحة من التاريخ. علما بأن الانقلاب في موازين القوى الذي لغى التعددية السياسية في النظام العالي لم يكن ناتج انهيار الاتحاد السوفياتي فحسب، بل أيضاً ناتج التحول فى الصين بعد وفاة “ماو”، وكذلك ناتج فقدان زخم مشروعات التنمية الوطنية الشعبية (او الشعبوية) في دول عدم الانحياز ، فتلاقت هذه العوامل الثلاثة، وفتحت السبيل لهجوم الكتلة الامبريالية خلف شعار “العولمة” وفرض وصفة الليبرالية الفجة على جميع اطراف المنظومة العالمية.
وبما أن هذا النمط من العولمة قد أنتج فورا نتائج كارثية، فإن حركات الاحتجاج التي ظهرت في المواجهة بالتالي قد اعلنت معارضتها “للعولمة”، دون ان تذكر في جميع الاحوال وبالتحديد طابع العولمة المرفوضة.
لهذا النمط من العولمة طابع كارثي فعلا بالنسبة الى جميع الشعوب_ شمالاً وجنوباً_ شرقاً وغرباً_ فصارت السياسات التي يفرضها رأسمال الاحتكارات المالية الإمبريالية والقائمة على الليبرالية الاقتصادية دون قيود، صارت لا تحتمل في عدد متصاعد من الدول. وأظهر انفجار أزمة اليونان ذلك الطابع المدمر.
ويبدو أن الكارثة مضاعفة بالنسبة الى شعوب الجنوب المحكوم عليهم بالإفقار المتفاقم والمتواصل على نطاق شاسع، حتى أصبحت تهدد الملايين من البشر باستحالة البقاء على قيد الحياة وذلك في المستقبل المنظور.
لن نستغرب إذن أن الشعوب المعنية قامت بانتفاضات تواجه النظام المسئول عن تدهور الأوضاع الاجتماعية إلى جانب ممارساتة المعادية للديمقراطية. ويبدو أن هذه الاحتجاجات لم تبدأ في منتطقتنا العربية ، إذ سبقتها أمريكا اللاتينية بعقدين. وتجلت الحركات الاحتجاجية المعنية هنا في انتصارات انتخابية _ وهي الاستثناء في التاريخ وليست القاعدة _ في البرازيل وفنزويلا واكوادور وبوليفيا والارجنتين. ثم ادت هذه الانقلابات في موازين القوى السياسية الوطنية الى إنجازات حقيقية وإن كانت محدودة، ومنها ظهور جيل جديد من القيادات ذات القناعة الديموقراطية الصحيحة. كما انها انعشت الطموحات في التحرر من سيادة وشنطن على القارة ، الأمر الذي تجلى في إقامة منظمة سيلك التى تجمع جميع دول القارة عدا الولايات المتحدة وكندا. وكذلك شهدنا ثورات شعبية صادقة وواسعة النطاق اسقطت ديكتاتوريات بشعة في مالي والفلبين واندونسيا، دون أن تحقق إنجازات صلبة ، فخابت آمال الشعوب المعنية.
علينا إذن ان نطرح السؤال الحاسم: ما هي درجة نضوج وعي الحركة الاجتماعية_ خاصة في تونس ومصر، الى جانب دول عربية اخرى_ بمدى التحدي الحقيقي الذي تواجهه الشعوب ؟وهل هناك معالم تشير الى احتمال تحقيق “اهداف الثورة”؟ وماهى هذه الاهداف بالتحديد؟ ماهى الشروط التى ينبغى ان تتوفر لضمان مسيرة ناجحة؟ علما بان للتحدي المقصود أوجه مختلفة، متكاملة بعضها ببعض. والخص هذه الاوجه في الشعارات الثلاث الاتية:
-عداله اجتماعية، ديموقراطية صحيحة، احترام سيادة القرار الوطني في المجال الدولي.
ليس من الغريب ان الانتفاضات العربية جمعت جماهير شاسعة، تعد بملايين المواطنين. وبالتالي ليس من الغريب ان الفئات الاجتماعية المتباينة الممثلة في الحركة العامة قد اختلفت في التعبير عن مطالبها. ليس من الغريب ان هناك اجنحة في الحركة ركزت على المطالب الديمقراطية دون غيرها. ليس من الغريب وغير المفهوم ان هناك اجنحة في الحركة اخرى اضفت الاولوية للمطالب الاجتماعية (ضمان العمل للجميع، خاصة الشباب، الارض، التعليم، الصحة الخ).
وليس من الغريب ان الاهتمام بقضية الاستقلال الوطني لم يظهر فى الكثير من المظاهرات الشعبية، اخذا في الاعتبار الطابع الديماجوجي لخطاب القيادات في هذا المجال، في الماضى والحاضر. بيد ان تأجيل الالتقاء بين هذه الاوجه المختلفة للتحدي من شأنه ان يجعل الحركة بمجملها عاجزة عن تحقيق انتصارات صلبة. إذ يجب ان ندرك ان انجازات ديمقراطية في غياب اصلاح اجتماعي ملازم لها لن تتحقق.
لقد اثبتت التجربة مدى فراغ ممارسة “انتخابات”، في ظل استمرار تدهور الاحوال الاجتماعية بالنسبة الى الاغلبيات الشعبية.
وينطبق هذا الحكم على الجميع، بما فيهم الشعوب الاوروبية، وذلك بالرغم من رسوخ ممارسة الديموقراطية الانتخابية في عمق ضمير الجمهور في الغرب. لكن هاهي الانتخابات في اوروبا المعاصرة تسير في سبيل فقدان شرعيتها حيث أنه _ مهما كانت نتائجها _ فان البرلمان المنتخب يجد نفسه مجردا من حرية القرار، المتروك “للسوق” طبقاً لمبدأ الليبرالية المعمول به. وأنا اعتبر ان تاكل مصداقية ومشروعية الانتخابات في هذا الاطار يمثل بالفعل خطرا على مستقبل الديموقراطية نفسها.
ماهي الاولويات في بلاد الجنوب؟
ليس المطلوب “انتخابات فورية”. بل المطلوب فتح السبيل لممارسات اجتماعية تدفع النضال الى الامام، وتوفير الزمن الضروري حتى تستطيع الطبقات الشعبية ان تنظم نفسها بنفسها للدفاع عن مصالحها. ثم، بعد ذلك، تأتي ساعة انتخاب يحتمل ان يكون لها معنى. ويعلم العدو الامبريالى ذلك تمام العلم. ولذلك ينادي ب”حل الازمة من خلال انتخابات فورية”! كما ان كتابة سريعة لنصوص الدستور لن يفيد. يجب قبل ذلك رفع المبادىء التي سوف يعطي لها الدستور شكلها المؤسساتي لتفرض على ارضية الواقع المعاش.
هناك احتمال حقيقي ان التغير في ميزان القوى الاجتماعية والسياسية عبر تواصل النضال وخلق جو مناسب للديموقراطية على ارضية الواقع، ان هذا التغيير يدفع الى الامام الوعي بما يعنيه برنامج للاصلاحات الاجتماعية المطلوبة، وبالتالي تشجيع ظهور منظمات واحزاب وقيادات مرتبطة ارتباطا صادقا بالمصالح التي تمثلها، او تود ان تمثلها.
يقتضي تبلور مثل هذا البرنامج من الاصلاحات الاجتماعية شجاعة فكرية وسياسية. حيث ان منطق النظام الليبرالى القائم يفعل فعله في الاتجاه المعاكس. فيحول دون الخروج من مأزق تفاقم التدهور فى الاحوال الاجتماعية ولا ترسيخ الديموقراطية دون مواجهة صريحة وجريئة للتحدي. فيجب رفض منهج الليبرالية الاقتصادية لادارة المجتمع رفضا تاما.
ويتوجب أن تجد قضية الاستقلال الوطني مكانها في هذا التطلع، حيث إن رفض الخضوع لوصفة الليبرالية الاقتصادية من شأنه ان يفتح فصلا جديدا من النضال الوطني ضد القوى الإمبريالية صاحبة مذهب الليبرالية الفجة.