جدل المثقف والسياسي: غسان كنفاني نموذجاً
د. محمد عبدالقادر
ستبقى العلاقة بين “المثقف” و “السياسي” علاقة ملتبسة طالما اختلفت استعدادات المنخرطين في النضال الوطني والاجتماعي للتضحية.
نعم، إنه الاستعداد للتضحية الذي يمثل الفارق الأساس بين سياسي ليبرالي ومثقف يمتلك النظرية (المنظومة الفكرية الشاملة) وينخرط في إطار إدارة تعتنق هذه المنظومة وتجسدها ممارسة على أرض الواقع (حزب). وهنا نستعيد المفهوم الذي طرحه غرامشي في “دفاتر السجن” عن “المثقف العضوي”، أو “المناضل المثال” الذي صاغه أحمد فؤاد سخيم في وصفه لــــ”تشي جيفارا”. في زمن الأزمات والارتداد واحتدام الصراع مع القوى الامبريالية والظلامية تشتد الحاجة إلى المثقف العضوي أو المناضل المثال، أو القائد الثوري، سمّه ما شئت، وتتراجع قيمة السياسي الليبرالي المتحلل من كل ما يعتبره “قيوداً” أيديولوجية أو تنظيمية، أو أي شكل من أشكال الالتزام التي تقتضي بالضرورة استعداداً عالمياً للتضحية.
وإذ تأتي هذه المساهمة المقتضبة في سياق ملف عن غسان كنفاني فلعل أيسر الوسائل لإيضاح الفوارق بين “المثقف” و “السياسي” هي تأمل النموذج الكنفاني ذاته، وتمثل هذه الحالة البارزة، وإن لم تكن الوحيدة أو الاستثنائية في عالم النضال من أجل التحرر الوطني الديمقراطي والاجتماعي.
هذا النموذج جسر الهوة بين مفهومين أو اتجاهين أو قل فلسفتين في النضال والحياة والموت. ولنطرح الإشكالية على صيغة تساؤل على النحو الآتي:
“أكان لغسان أن يعيش في العقول والوجدان والضمائر على هذه الصورة لو أنه: كان أديباً مبدعاً فقط؟ ولو أنه كان مسؤولاً حزبياً فقط؟ ولو أنه كان مفكراً يسارياً فقط؟ أو كاتباً سياسياً مرموقاً فقط؟ أو حتى لو كان مناضلاً شهيداً فقط؟”
وأكاد أجزم أن هذه السلسلة من التساؤلات لو ضمنت في استبانة محدودة أو موسعة لجاءت الاجابات بالنفي، والنفي القاطع.
هذه الاجابات سوف تستولد سؤالاً بسيطاً يقول:
* لماذا كان الجواب بالنفي؟؟؟
وإذا ما جاز لي أن أجتهد في اجتراح تفسير لذلك، سأقول: لأن غسان كان مشتبكاً بكليته، بكل طاقاته وقناعاته ومهاراته وكفاءاته مع كل ما يدور من حوله. كان كلاً لا يتجزأ، وبات معروف أن الكل أكبر من مجموع أجزائه. ما كان لغسان أن يظل خالداً لولا إيمانه العميق بعدالة قضيته، ولولا أنه امتلك الفكر _ البوصلة، والأداة الحزبية التي تنظم جهوده وجهود رقاقة واصدقائهم وأنصارهم.
بل إنه أسهم باقتدار في تطوير الفكر والرؤى السياسية والحضور الإعلامي الوطني والعربي والعالمي، واشتبك مع القوى المعادية، واختار شكل موته مثلما اختار مسار حياته.
كان يمكن لغسان أن يكتفي بأن يكون أدبياً مبدعاً فقط، وكان ذلك يكفيه ويستجيب لطموحات الأديب فيه، وكان يمكن له أن يكون إعلامياً حاذقاً وشهيداً، وكان في ذلك ما يرضيه ويريحه من مهمات ومسؤوليات أخرى لا نهاية لها، وكان .. وكان …
وكان له أن يكون كاتباً سياسياً مستقلاً يمارس حريته في التحليل والتركيب والمواقف، لكنه صهر الأجزاء في الكل وكان أكبر، وصار غسان خالداً.
قلت إن غسان في التاريخ الحديث لم يكن استثناءً، وإن كان حالة مميزة ضمن النماذج المماثلة. هناك الفرنسي الأسمر الطبيب فرانز فانون الذي حارب النازيين، وحين انتقل إلى الجزائر صار أحد أقطاب جبهة التحرير الوطني الجزائرية في مجالاتها المتعددة، كتب “المعذبون في الأرض” ومات بعمر غسان بالضبط. مهدي عامل (حسن حمدان) اللبناني العروبي الأممي والمفكر اليساري، والمنظر البارز، الذي أغتالته القوى الظلامية هو والمفكر العظيم حسين مروة.
ولن نختتم هذه المقالة من دون الإشارة إلى المناضل الشهيد باسل الأعرج، هذا الشاب الذي قال: إذا ما بدك تكون مثقف مشيتك، لا منك ولا من ثقافتك، ولا فايدة منك. كأنه يعيد صوغ مفهوم المثقف في ضوء الصراع التحرري الوطني: “المثقف هو الانسان المشتبك”.
إنه الإيثار، إنها التضحية، وإنه الثمن الذي سيدفعه المثقفون المشتبكون الذين تخلدهم عقول الأمة، ووجدانها وضمائرها.