جدلية الوحدة والمقاومة في وصية الحكيم
لطالما كان حكيم الثورة الدكتور جورج حبش ثوريًا وحدويًا لأبعد حدّ، وطنيًا لم يساوم يومًا ولم يتنازل أو يًجامل على حساب القضايا الوطنية التحررية. كان سياسًا مقاتلًا، أسس، فعلًا لا قولًا، لقاعدة جوهرية لرفاقه وجبهته، ولكل الثوريين: “يجب ألّا يطغى التكتيك على الاستراتيجيا، وألّا تطغى السياسة على الأيدولوجيا”؛ قاعدة واضحة ومباشرة وصريحة، وتنطبق على الشعار الذي كان يضعه فوق مكتبه: “ثورتنا: ضد الصهيونية والاستعمار والرجعية. شعارنا: الحقيقة كل الحقيقة للجماهير. اعتمادنا: على الجماهير العربية الكادحة. وسيلتنا: حرب التحرير الشعبية.”
في بحر الذكرى 11 لرحيل حكيم الثورة الدكتور جورج حبش، وككل عام، ومن باب التأكيد، أريد أن أكرر أنها محطة هامة للمراجعة، والنقد والتعلّم للانطلاق بقوة أكبر والمواصلة على نهج الحكيم الثوريّ السليم.
من هذا الباب، وفي ظل كل المساعي لتوحيد البيت الفلسطيني، لتدعيمه وتقويته في مواجهة العدو بصورته الصهيونية، والجاثم على أرضه منذ ما يزيد عن سبعين عامًا. من هنا، أردت الحديث عن وصية الحكيم الأخيرة لرفاقه، ولكل الوطنيين، والتي يحفظها الجميع عن ظهر قلب، وهي التمسك بالوحدة والمقاومة.
في البداية، لنتّفق أنه لم يكن عبثًا أنّ الحكيم ربط بين الوحدة والمقاومة، وليس غريبًا عليه هكذا وصية، لكن السؤال هنا: بعد أن حفظنا الوصية عن ظهر قلب، كيف نفهما؟ والأهم، كيف نُطبّقها؟ وللإجابة عن هذين السؤالين، لسنا بحاجة للتفكير خارج الصندوق، بل على العكس تمامًا، نحن بأمسّ الحاجة اليوم أن نفكّر داخل الصندوق؛ بمعنى أنه على جبهة الحكيم اليوم النظر إلى داخلها وإلى الحكيم. وأقصد هنا قراءة ودراسة رسائله وأفعاله، وهذا من باب المسؤولية الوطنية التاريخية بلا شك.
أجزم أن الحكيم أعطى إجابات كثيرة خلال مسيرته الثورية، ورسم فيها الخط الذي يريد لجبهته ورفاقه السير عليه حتى العودة والتحرير، ومن أوجز هذه الإجابات ما قاله في اجتماع المجلس الوطني الفلسطيني في الجزائر عام 1988، إذ قال: “أريد أن أعلن هنا: أن استمرار البندقية المرفوعة، المقاتلة، ضد العدو الصهيوني يؤمّن 50% من وحدتنا الوطنية، المهم أن نستمر في مقارعة هذا العدو!”
لا يحتاج الأمر إلى تفسير كثير، يمكننا القول بكلمات ثلاثة: (الوحدة الوطنية في الميدان)، أي أن عمود الوحدة الوطنية هو العمل الميداني، وهنا نتحدث بالتأكيد عن المقاومة بكافة أشكالها، وعلى رأسها المقاومة المسلحة، وبالتأكيد لا تشتمل تلك الأنواع على ما يعرف بالمقاومة السلمية، التي لا أعرف كيف استقام مفهومها بالنسبة للكثير نظريًا ولا حتى عمليًا، إذ لم يذكر التاريخ أن شعبًا محتلًا اقتلع محتله من أرضه سلميًا، فلا نصر دون سلاح!
قبل الحديث عن الخمسين بالمئة المتبقية التي من شأنها تأمين الوحدة الوطنية للبيت الفلسطيني، يجدر البدء بالحديث أن ربط الحكيم بين الوحدة والمقاومة كان استنادًا إلى أن العلاقة بينهما هي علاقة جدلية؛ وهي من حيث المفهوم (أي العلاقة الجدلية) علاقة ذات تأثير متبادل، عموديًا وأفقيًا، بين طرفيّ هذه العلاقة، وهما هنا الوحدة والمقاومة؛ إذن، تؤثر الوحدة بالمقاومة وتتأثر بها، ولا ينفصلان ما بقيت العلاقة، أي أن العلاقة بينهما تنتفي عند غياب أحدهما، ما ينسحب على تأثير كل منهما بالآخر. لكن كيف نضع هذا على أرض الواقع؟
لا يخفى على المتابع العادي اليوم، أن الحديث الدائر عن الوحدة الوطنية الفلسطينية هو حديث يدور في دائرة مفرغة، وذلك لأسباب عدة لا تخفى على المتابع أيضًا، ومن أهمها الانقسام الفلسطيني بين حركتيّ فتح وحماس. وفي ظل هذا الانقسام هنالك العديد من المساعي العربية والفلسطينية، سأتطرق للفلسطيني منها، وسأخصّ المساعي التي تبذلها الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين. لا يُشكك اثنان بالمشروع النهضوي الوحدوي الذي تتبناه الجبهة الشعبية وتُطبقه. ولذلك، يفرض سؤال نفسه هنا؛ هل ينطبق المشروع على الحالة الفلسطينية الراهنة؟ وكيف نُقيّم الوحدة مع طرفيّ الانقسام؟
في مرحلة التحرر الوطني الديمقراطي، وفي ظل وجود عدة أدوات للتحرر، ثمّة حاجة ماسّة إلى صقل الوعي المفاهيمي لعملية الوحدة الوطنية، خاصة وأن جيلًا كاملًا من الفلسطينيين كبر وعاش في مرحلة من أسوأ مراحل الثورة الفلسطينية الحديثة، التي هي مرحلة ما بعد أوسلو بالتأكيد. في هذا السياق، يجب التخلص من جميع المفاهيم التي أفرزتها مهزلة أوسلو، مثل الحديث عن نزع سلاح المقاومة، واحترام الاتفاقيات السابقة بين الطرف الذي يُمثّل أوسلو وطرف الانقسام الآخر، تلك الاتفاقيات التي لم يحترمها الطرفان يومًا، والتي ليست سوى عصيّ في دولاب حركة التحرر الوطني الفلسطيني.
وعن طرفيّ الانقسام، أقتبس؛ “ما زالت البرجوازية الكومبرادورية والطفيلية الفلسطينية بشقيّها الديني والوطني، تُضيف مزيدًا من الإحباط في أوساط الجماهير الفلسطينية جراء الاحتراب على سلطة محدودة، ولّدت فسادًا سياسيًا وماليًا وإداريًا وثقافيًا، جراء المراهنة على أوهام لم تتحقق”، من رسالة الرفيق أحمد سعدات، الأمين العام للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، إلى المؤتمر الوطني السابع للجبهة، عام 2014.
“إننا إذ لا نقلل من خطر الإسلام السياسي على قضيتنا الوطنية والديمقراطية، بعد تحوّلاته الأخيرة واختياراته التي لا تفيد العملية التحررية الوطنية، نرى أن الخطر الثاني بعد خطر الاحتلال كخطر رئيسي مستمر وقائم، هو الهبوط السياسي للقيادة المتنفّذة في منظمة التحرير الفلسطينية،واستجابتها للضغوط الأمريكية والصهيونية، وذلك يملي على حزبنا وقوى وشخصيات اليسار الفلسطيني، إدراك عمق التحولات الطبقية والسياسية التي طرأت على البرجوازية الطفيلية في منظمة التحرير الفلسطينية، إن المطلوب هو عدم التماهي معها أو مهادنة مواقفها تحت فزاعة الخطر الأصولي كوجه آخر لعملة البرجوازية الطفيلية ذاتها. هذا يُملي علينا كحزب ثوري وقوى يسارية أن نبرز رؤيتنا الثالثة المستقلة والنابعة من مصالح وطموحات الجماهير الشعبية التي تعبّر يوميًا عن استيائها مما آل إليه وضع قضيتنا”، انتهى الاقتباس.
في مرحلة التحرر الوطني الديمقراطي يعتبر العامل الطبقي مهمًا جدًا، ذلك أن الطبقات التي ستواجه معسكر الأعداء وحلفائه وأدواته يجب أن تكون واضحة المعالم، حتى تكون صيغة العمل بينها واضحة، من أن تكون مسار عملية التحرر صحيحًا ويستند إلى وحدة الفعل النابعة من وحدة الإرادة.
أما وقد وضّح أحمد سعدات الموقع الطبقي لبعض الأطراف الفلسطينية، يبقى علينا معرفة موقع الأطراف الأخرى، وحول هذا يقول الحكيم عن جبهته: “إن أحد الأسباب الرئيسية لتشكيل الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين هو المنظور الطبقي الذي أعطيناه للنضال الفلسطيني والعربي. تعلّمنا من خلال التجربة أن الطبقات الأكثر اضطهادًا – العمال والفلاحين وقطاعات من البرجوازية الصغيرة، والفلسطينيين في مخيمات اللجوء – هم الأكثر تناقضًا وتناحرًا مع التحالف الإمبريالي الصهيوني الرجعي. إنهم من يكتبون التاريخ بإصرار ومثابرة في هذه الحرب طويلة الأمد دون تردد”.
هنالك طرفان إذن، الأول؛ الطبقات الأكثر اضطهادًا – العمال والفلاحين وقطاعات من البرجوازية الصغيرة، والفلسطينيين في مخيمات اللجوء – وهم الأكثر تناقضًا وتناحرًا مع التحالف الإمبريالي الصهيوني الرجعي (متمثلًا بالجبهة الشعبية وغيرها من القوى الوطنية التقدمية الديمقراطية). والثاني؛ البرجوازية الكومبرادورية والطفيلية الفلسطينية بشقيّها الوطني والديني (متمثّلًا بطرفيّ الانقسام، فتح وحماس).
من حيث المفهوم، البرجوازية الكومبرادورية هي البرجوازية العميلة في المستعمرات، والوكيلة للأجنبي (في الحالة الفلسطينية هي العميلة في المغتصبات الصهيونية، والوكيلة للاحتلال). وتتميّز بأنها مرتبطة برأس المال الأجنبي ودوائره واحتكاراته، وهي تساعد تلك الدوائر والاحتكارات على تحقيق مصالحها، وبلوغ أهدافها وجني المزيد من الأرباح وما إلى ذلك. ومن الأدوار الرئيسة التي تلعبها أنها تُسهّل عملية استيراد رأس المال الأجنبي واستثماره داخل البلاد التابعة، وهي وثيقة الارتباط بالملكية العقارية الكبرى، وكبار الملاكين العقاريين وأصحاب المراتب العليا من البيروقراطيين. وهي طُفيلية كونها مستفيدة من كل أشكال الريع والاحتكار وتعتاش عليها وعلى استغلال وسرقة غيرها.
من منظور طبقي، نرى أن الطرف الثاني المتمثّل بطرفيّ الانقسام، وصورتهما الحالية، وبناءً على ما سبق أعلاه، لم يعد مُحرّكًا قويًا من مُحرّكات حركة التحرر الوطني، بل بات عامل كبح لسيرورتها. الأمر الذي ينعكس بالضرورة على العلاقة بين الوحدة والمقاومة، إذ يجعل الأرض التي تستند إليها الجبهة الشعبية من أجل الوحدة الوطنية أرضًا هشّة، وهذا طبعًا يؤثر بالمقاومة ويعمل على خفت شعلتها.
الوحدة الوطنية بالمفهوم الذي نريد تتطلب من الجميع الوقوف أمام نفسه، بما في ذلك قيادة الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وإجراء مراجعة نقدية شاملة لمسار النضال الوطني على مدار سنوات الثورة الفلسطينية الحديثة، ولما يزيد عن ربع قرن من المراوحة في مربع المفاوضات العبثية التي هزّت أركان الثوابت الوطنية الفلسطينية، وأضعفت أعمدة البيت الفلسطيني، ولا أنسب من ذكرى الحكيم لأن تكون نقطة انطلاق لإعادة بناء استراتيجية النضال الوطني وأدواته الوطنية والديمقراطية الجامعة.
بالتالي، حقيقة أن مرحلة التحرر الوطني الفلسطيني لم تنته بعد تضعنا في خانة رفض المشروع الذي يطرحه الطرفان، أحدهما أو كلاهما، والعودة إلى طرح مشروع وطني ثوري تحرري، ليعود الفلسطينيون على المسار الصحيح في مرحلة التحرر، طليعة ثورية في مواجهة الإمبريالية العالمية وأداتها الأكثر وحشية، وهذا من باب المسؤولية الوطنية التاريخية، ومن موقع الالتزام بمواصلة النضال، ومن موقع الوفاء لكل الشهداء، وفي مقدمتهم الحكيم الدكتور جورج حبش.