ثقافة التطوع في مواجهة ثقافة الاستهلاك | رانيا لصوي
كشفت الأزمة العالمية التي نعيشها أدق تشوهات المجتمعات الرأسمالية، والرأسمالية التابعة. نجد أن هذه المجتمعات تدخل في أزمات حقيقية ليس فقط بسبب فيروس الكورونا، رغم أن الأزمة صحية بالظاهر، إلا أن مواجهتها لن يتوقف على تعداد المستشفيات وعدتها، هذا ما تتحمله الدول بكوادرها وإمكانيتها، ولكن عندما نصطدم بأن الوقاية هي الأساس تواجهنا ثقافة الاستهلاك، العدو الحقيقي، فهذه الشعوب التي تتهافت دون اكتراث للأضرار على صحتها والإسراع بتناقل المرض، تتهافت على أي شيء، بغض النظر عن أهميته أو كماليته، فحاجات الإنسان المستهلك اليوم تتبع أهوائه ولا تقاس بالحاجة للحد الأدنى لاستمرارية الحياة كما تعلن جميع أنظمة العالم.
ليس صدفة أن تجد المجتمعات الأكثر التزاما هي المجتمعات الاشتراكية البناء، التي تمتلك القدرة الذاتية على تقاسم المنتوجات حسب الحاجة، وليس حسب كمية المتوفر.
لطالما كان العمل التطوعي رافعة تحضّر وحرية، وأداة لتحقيق التكافل الاجتماعي، وتعميق الترابط، فهو ممارسة إنسانية وسلوك اجتماعي يمارسه الفرد من تلقاء نفسه وبرغبته. غياب هذه الثقافة اليوم، وعدم القدرة حتى على القيام بأبسط أعمال التطوع وأقلها جهدا وتكلفة، وهي التزام المنازل، أدخل أنظمة عالمية رأسمالية في فقدان السيطرة وعدم القدرة على مواجهة فيروس الكورونا. وهي بالأصل ما أوصل الشعوب المحيطة بالرأسمالية الى الانحدار، وفقدان الاستقلالية، والسيادة.
التطوع الذي غاب عن المدارس، الجامعات والحركات الطلابية، لعب غيابه دورا اساسيا في فقدان الهوية الوطنية والقدرة على ضبط الذات. هذه المفاهيم التي تبدأ بالحاجة وتتطور لتصبح حالة اجتماعية تسد الفراغ الناجم عن غيابها، وبالوقت الذي حلّـت فيه ثقافة الاستهلاك بديلا عن الانتاج والتطوع، نجد أنفسنا اليوم أمام مواجهة صعبة جدا لعدو خفي، ومجتمع غير متعاون.
يسلط الضوء الشهيد باسل الأعرج في دراسة له معنونة بـ”العونة” على أهمية وتاريخية العمل التطوعي، ويعرّف الفزعة “بأنها أسلوب تنظيم مجتمعي أفقي قائم فعليا على تنظيم مُحكم جدا وليس ردة فعل فورية يلجأ لها الناس وقت الخطر”، حتى تعبير الفزعة الذي اعتدنا عليه في بلدنا الأردن كما فلسطين، نراه اختفى في هذه الأزمة وفرضت الانا الاستهلاكية نفسها فوق كل القيم المجتمعية.
أهمية العمل التطوعي في مواجهة الاستهلاك هي قضيتنا اليوم، العودة الى التمسك بالانتاجية المنزلية هي قضيتنا اليوم، وسبيلنا الوحيد الى الخلاص، بل على العكس يجب أن نبني عليها أكثر لضمان الديمومة في المرحلة الصعبة اللاحقة اقتصاديا.
بالرغم من أن جوهر العمل التطوعي هو بغياب قيام الدولة بدورها الكامل، إلا أنه باللحظات العصيبة، الحرب أو الوباء وماشابه، يصبح عمل تكاملي واجب على الدولة تفعيله مع مؤسسات المجتمع المدني والأحزاب الوطنية التي عليها هي أيضا ضرورة البدء بزمام المبادرة، فهي حاجة ذاتية لها في ظل عقود من التعامل الأمني والرافض لها، نعم.. هذه فرصة سانحة لإبراز الذات الوطنية لكل حزب، وتذويب كل المعيقات الاجتماعية التي تكرست سنوات ضدها.
الارتكازعلى المنظومة الحزبية كقاعدة لتشكيل لجان العمل الشعبية، ضبط التطوع بالبعد الصحي، كانت أدوات دولة الصين في محاربة وباء الكورونا، استندت على ثقافة بناها حزب الدولة، إضافة الى الخلفية الاشتراكية والوعي الجمعي. وعلينا الاقتداء بهذه التجربة التي أثبتت تجاحها في تجاوز المحنة، والتخلص السريع من ترسبات الرأسمالية وتشوهات الليبرالية فورأ، لصالح تكامل العمل وتكافلة.
التوعية والتعبئة، الخطاب البنيوي وتحمل المسؤوليات الفردية للخلاص الجماعي هي أدواتنا فقط في هذه المواجهة.