تشوه بنيوي في النظام السياسي الأردني…د. موسى العزب
صورة ملتقطة تحت قبة البرلمان، لحظة انعقاد جلسة لمجلس النواب يناقش فيها مذكرة نيابية حول اتفاقية الغاز مع ” إسرائيل “.
ظهرت النائب هند الفايز وقوفاً في أقصى القاعة وهي تلوح بيافطتها الشهيرة (غاز العدو إحتلال)، وحتى ذلك الوقت لم تكن لتفلح مطالبات رئيس المجلس من جعل ” هند ” تنزل يافطتها.
على يسار مقدمة الصورة، جلس رئيس الوزراء على المقعد المخصص له باسترخاء كامل، شبك بين كفيه وأسند ظهره على الكنبة وأمال برأسه قليلاً تجاه مقاعد النواب الذين بدوا غاطسين خلف قواطع طاولاتهم الخشبية لا يَلوون على شيء بينما راح بعضهم يمارس عادة المسامرة الثنائية مثل ما يفعلون في معظم جلساتهم مهما كانت أهمية المواضيع المثارة، ولا ينقذهم من حالة الضجر هذه سوى اشتعال نزالات بين زملائهم أو إندلاع مشاجرات شخصية.
رئيس الوزراء يراقب الحضور بدون كثير من الاكتراث، فقد خبر الرجل أعضاء المجلس جيداً، حيث كان واحداً منهم، ويعلم بأن الصوت العالي وضجيج الاستعراض عند النواب لا يعني الجدية أو وضوح الرؤية وصلابة الموقف، يكاد يقبض على المجلس كاملاً، يبحث بتروٍ عن مفاتيحه من أقطاب المجلس، وعن الخيوط المنسوجة مع بعض كتله، وعن حضور مواليه من محترفي التوتير المحسوب ومثيري الغبار الذي يساعد في تمرير مشاريع قوانينه وسياساته.
يدرك دولته بأن الفتوى القانونية، بعدم إلزام الحكومة برأي النواب في الإتفاقية تعمل لصالحه، وأن الورقة القوية الوحيدة بين يدي النواب، تتمثل في قدرة المجلس على ” حجب الثقة ” عن الحكومة. ولكن ألم تفشل محاولات سابقة لحجب الثقة، رغم الحصول على توقيع (150) نائباً على مذكرة لطرح الثقة في قضية اغتيال القاضي رائد زعيتر وإمتناع الحكومة عن تنفيذ توصية الأغلبية النيابية؟ ومن يذكر زعيتر داخل المجلس الآن؟
التحدي الذي تعيشه البلاد متنوع وعميق، هناك تحدٍ إجتماعي وإقتصادي وثقافي وسياسي حتى بنيوي وأخلاقي.
ما نعانيه من تدهور في المؤسسات السياسية كبير، ويعكس في الواقع الأزمة العميقة للدولة ونهجها وإدارتها.
منذ عامين ربطت أعلى سلطة في الدولة بين بقاء الحكومة ورضا النواب عن أدائها، ولكننا نكتوي اليوم بصخب النواب ومذكراتهم المتعددة لطرح الثقة، وتبقى الحكومة في الدوار الرابع على حالها، ولا تتوقف عن تسجيل أهدافها غير الشعبية، ولم تفعل شيئاً لتحسين المستوى المعيشي للمواطن أو لجهة تخفيض معدلات الفقر والبطالة، بل عمقت عملياً من التنموية والتشوهات البنيوية في السياسة والإقتصاد.
لقد بدى للمراقب وكأن التوترات والمشاجرات النيابية المتوالية في العبدلي، واستفزازات النواب للحكومة، ليست أكثر من ظاهرة صوتية ومعارك استعراضية هابطة تعكس المستوى المتدني لمجلس النواب وحجم تدخل اطراف متعددة في تحريكه والتحكم به وتوظيفه في محطات سياسية مختلفة.
يرتفع صوت النواب، وسرعان ما يتم امتصاص إعتراضاتهم بتقديم خدمات مصلحية لهم سواء عن طريق تسامح رئيس الحكومة وتغاضيه عن تطبيق القانون على من صدر بحقه قرارات قضائية قطعية، أو عن طريق تقديم الولائم والهبات والعطايا والإعفاء من فواتير مستحقة، كل ذلك على حساب المال العام وعلى حساب المواطن والوطن.
شاهدنا من خلال مقاربة حادث التهجم على النائب هند الفايز وعلى المرأة والكوتة النسائية بروز ثقافة ذكورية متجذرة في المجتمع، رغم تغني الأكثرية بوضع المرأة في المجتمع وإدعاء أن الأردن يحترم حقوق المرأة ويوقع على المواثيق والإتفاقيات الدولية في هذا المجال. في واقع الأمر نعيش حالة من الانفصام، ونستمر في سياسة التمييز السافر ضد المرأة في أغلب المجالات، يكفينا مثلاً بأن النساء يشغلن (3) مقاعد فقط من أصل (147) مقعداً في عضوية مجالس الجامعات الرسمية.
عندما يهاجم بعض النواب جزئية الكوتة النسائية، يتناسوا بتواطئ كامل، أن النظام السياسي والإجتماعي بمجمله قائم على نظام الكوتات.. ” كوتات ” للشركس والبدو والمسيحيين والمخيمات في البرلمان. في الحكومة والأعيان فإن الكوتات الديمغرافية والجغرافية وتمثيل المحافظات ولو كان على حساب الكفاءة والجدارة، هي السائدة. أضف إلى ذلك دخول الجامعات والقبول، حتى شغل المناصب الأكاديمية والإدارية في الجامعات لا يخرج عن منطق الكوتات والاسترضاءات.
هذا الوضع يؤدي إلى تكريس حالة التشرذم والانقسام في المجتمع والعودة إلى الروابط الأولية بوصفها الرافعة الرئيسية للخلاص الفردي والسعي إلى المواقع الرسمية. وأوصلنا إلى تردي مفهوم دولة القانون والمواطنة وضياع مبدأ الكفاءة والمحاسبة.
أمام هذا الأداء النيابي المتدني، يبرز نهج حكومي يعطل أي حراك إصلاحي أو حوار مجتمعي حقيقي وتدير الحكومة ظهرها لقوى المجتمع المدني، وتفتعل تجاذباتها مع مجلس النواب لتحرير توجهاتها وسياساتها بأسلوب الابتزاز وتقديم الرشاوي.
في مواجهة معارضة الأغلبية في مجلس النواب لتوقيع إتفاقية الغاز ” الإسرائيلي “، ألقت الحكومة في وجه النواب جملة من البدائل القاسية تمثلت برفع أسعار الكهرباء أو اللجوء إلى الإنقطاعات المنظمة للتيار، في حال لم يرضخ الأردن لقبول الإتفاق. أسلوب لي ذراع الأردنيين لتحرير سيايات غير شعبية، جزء من تقليد الحكومة الدائم ألم تقل لنا الحكومة سابقاً بأن بديل عدم تحرير أسعار المحروقات سيكون سقوط مؤكد للدينار ولم يكن كلام الحكومة لا صادقاً ولا دقيقاً.
الحكومة تكذب لأن الحديث عن رفع أسعار الكهرباء موجود في خطتها لمعالجة مديونية شركة الكهرباء والممتدة من العام (2013) ولغاية نهاية (2017) وذلك امتثالاً لبرنامج التصحيح الموقع مع صندوق النقد الدولي، أما مسألة اللجوء إلى الانقطاعات في التيار في حال وقوعها، ستكون مرتبطة بسوء إدارة الحكومة لقطاع توليد الكهرباء والذي يعاني من تشوهات عميقة منذ سنين.
لن نضيف جديداً إذا قلنا بأن قانون الإنتخابات للصوت الواحد هو المسؤول بالدرجة الأولى عن هذا التشوه المعيب في أداء المؤسسة التشريعية إمتداداً إلى الحكومة، ولم تفلح محاولات الترقيع داخل المجلس من إعداد نظام داخلي أو تعديلات دستورية تعيد للمجلس جزءاً من صلاحياته، إلى تغيير هذه الصورة. بل تردت صورة المجلس والنواب بشكل خطير أمام الرأي العام.
ولكن الحقيقة أيضاً، حتى لو جاء مجلس نيابي بقانون معدل ومخرجات أفضل، واستطاع مواجهة الحكومة وتحديها بسحب الثقة منها، أو إجبارها على تغيير سياساتها، هل سيسمح له النظام السياسي في الاستمرار؟ وهل تستطيع الدولة تحمل مثل هذه ” التطاولات ” السياسية، خاصة ونحن نعيش في الوطن من حد عال من التبعية السياسية والإقتصادية؟
في ظل معادلات إقليمية ودولية متفجرة ومتداخلة، استطاع النظام أن يفرض نمطاً خاصاً من ديمقراطية أردنية مشوهة، افرزت مؤسسات ضعيفة فاشلة، وهمشت المشاركة الشعبية وأضعفت من بنية واداء مؤسسات المجتمع المدني، أصبحنا نعيش فترة زمنية حرجة، تغيب فيها عن الطبقة السياسية أي حضور لأحزاب كبيرة مؤثرة، تضيع فيها الفواصل وتُغَّيب فيها المرجعيات، ويسقط الجميع في مناكفات وتقافز عن المواقف إرتباطاً بالمصالح الشخصية والحسابات الخاصة.
المطلوب منا جميعاً أن نعمل بوضوح وجرأة لتحديد آفاق البناء الديمقراطي الذي نريد ومدى قدرته على الإجابة على تحدياتنا السياسية والإجتماعية، وضرورته وتناغمه مع المصالح الوطنية والأمن المجتمعي وتحديد خلاّق لمفاهيمنا للمواطنة والعداله الإجتماعية والأمن الوطني، والمصالح الوطنية العليا في محيط الأردن الإقليمي والدولي.