مقالات

ترامب يغزو الرئاسة الامريكية هل يؤسس لنهاية حقبة العولمة الليبرالية / د. موسى العزب

عكْس معظم استطلاعات الرأي، فاز ترامب في الإنتخابات الرئاسية الأمريكية، وفي بلاده بالتحديد شعر ملايين الأمريكيين بالذهول والصدمة ولم يصدقوا بأن هذا الملياردير الفظ والفاسد قد أصبح رئيسا لأقوى دولة في العالم .

كانت الأنظار توجه إلى هيلاري كلنتون، يساندها اللوبي الإعلامي السائد في العالم، الجميع يروج للمرشحة “الديموقراطية” ويُشيطن “المهرج الوغد” ترامب، في حملة واسعة شارك فيها شخصيات بارزة من معسكر ترامب نفسه.

كل ذلك تم على مرتكزات شخصيانة رغائية، دون عرض لقراءة موضوعية لطبيعة القوى الضالعة في الصراع السائد، أو تقديم صورة موضوعية لهذه القوى، واتجاهات الحركة المجتمعية في العالم وبؤرها المؤثرة على وجه الخصوص.

لم يرصد الإعلام حجم المتغير الذي أصاب المجتمع الأمريكي، ولا وزن الخطوات التي قطعها ترامب بعد تخطيه أفيال “الجمهوريين” أمثال جيب بوش وتيد كروز. ترامب العنصري استدار وأعاد تموضعه من الناخبين الأمريكان الأفارقة واللاتينو، وأخذ يعكس اتجاه التوقعات ويفرض نفسه كمرشح جدي إلى نهاية الخط.

في المقابل، فإن كلنتون المتغطرسة، الوجه الكالح للمؤسسة النخبوية الفاسدة التي تبنت بصفاقة عقيدة الجمهوري ريغن ودوائره النيوليبرالية بالعولمة الإقتصادية والتدخل الخشن على مستوى العالم، وتبعت خيارات الحرب الكارثية التي أقدم عليها المحافظون الجدد، من العراق إلى أفغانستان إلى ليبيا وسورية وصولا إلى أوكرانيا، مغامرات مدمرة شهدت تعاونا فاضحا مع القاعدة والجهاديين الإسلاميين لخلخلة الدول والمجتمعات. سبق هذا الانقلاب المدوي في أمريكا ، عدد من الزلازل المتوالية في أوروبا منذ انتصار أقصى اليمين في النمسا، والتدخل السافر لإفشال تجربة اليسار اليوناني، وخروج بريطانيا الدراماتيكي من الاتحاد الأوروبي، وهزائم ميركل في معاقلها، ونجاح اليمين القومي في الفلبين، وتقدم أقصى اليمين في فرنسا وبلاد الشمال وهولندا وإيطاليا واسبانيا، والانعطافة الانقلابية في البرازيل وصولا للتحولات الفاشية في تركيا.!!

في كل مكان المشهد السياسي في حالة تحولات كبيرة، وصراع الحضارات الذي بشر به هنتجتون، تآكل وحل مكانه إنكفاءة نحو الدولة القومية، وأحزاب “الاستقرار” الكبيرة تعيش أزماتها، حيث نلحظ صعود قوى الانشقاقات وشعبوية تشف عن حربا طبقية جديدة بين المستفيدين من عالم تحكمه العولمة، وأؤلئك الذين يشعرون بالخذلان والإحباط.

هذه التحولات العميقة امتدت إلى أمريكا حيث شهدت البلاد عام 2010 إرهاصات لحملة شعبوية كاسحة تحت اسم حزب الشاي، وظهر ترامب كامتداد طبيعي لهذه الموجة وحاصدا لأصواتها الاحتجاجية، وجاء انتخابه كجزء طبيعي في منظومة دولية تتصاعد فيها حدة الارتباك والشك .

في خضم الأزمة العميقة للرأسمالية، تأخذ الثورة ضد العولمة والهجرة في العالم الغربي شكلا حرجا في مواجهة صعود روسي وصيني، وسط اضطراب وصراع هوياتي يطال كل الولايات المتحدة.

الرأسمالية في مرحلة تعمق أزمتها قبيل انتصاف القرن الماضي تقيأت الفاشية وأقامتها على أسس عنصرية عرقية في محاولة لتغييب حتمية الصراع الطبقي، وأمام أزمة الثمانينات لجأت الرأسمالية إلى الإرهاب الأصولي كأداة سيطرة وتحكم، وأقامته على أسطورة صراع الحضارات وصدرته إلى بلادنا لكي تنجو من جديد من أزمتها ولكن في ظل العولمة وثورة المعلومات، أدت ارتدادات الارهاب إلى تشوهات وتفسخ مجتمعي عند المُصدٍّر.

لم تستطع ” الديموقراطية” البرجوازية الصمود أمام هذه المستجدات لتنكشف الطبيعة الزائفة لهذه الديموقراطية وجوهرها الديكتاتوري الرجعي الشوفيني وسقوطها المدوي في الاختبارات الكبرى.

وفي حين يستمر نظام الرأسين الجمهوري – الديمقراطي الأمريكي شكلياً، جاء صعود هذا ” الطارئ”، ليشكل هزة حقيقية لهذا النظام وليكشف طبيعته المهترئة الفاسدة .

ترامب عنصري ، يمين اليمين ، بخطابه الشعبوي المشاغب على النخب السياسية؛  “جميعهم فاسدون”، هو ضد وول ستريت، مناهض للهجرة والمسلمين. هو ليس معادٍ للنظام بل ضد من قاد هذا النظام، استهدف الشرائح الأدنى المهمشة ضحايا العولمة الاقتصادية وخاطبهم بلغتهم، وظّف الإحتقان والخوف والكراهية لأغراضه السياسية، حفر شرخاً كبيرا في الحالة الأمريكية ووضع المجتمع هناك على حافة الانقسام والعنف.

البناء الفكري لترامب يستند إلى كونه صاحب رأس مال مضارب في سوق رأسمالي متوحش كل شيء فيه يخضع لقانون البيع والشراء والصفات، وبالعودة لبرنامجه الذي قام الإعلام بتغييبه ، يمكننا قراءة أهم العناوين التالية.

إدانته للعولمة الاقتصادية التي اعتبرها سببا في تدمير الطبقة الوسطي ومسؤولة عن إغلاق 6000 مصنع في أمريكا، يشكك بـ ” أكاذيب” التغيير المناخي ولا يلتفت لقيم حقوق الإنسان. يقترح ترامب تجاوز الاتفاقات التجارية الدولية، ويعمل على زيادة الضريبة على كل المواد المستوردة والعودة إلى أنظمة الحماية وسياسة انكفائية، يندد بغطرسة وول ستريت ويعد بزيادات ضريبية هامة على أصحاب الثروات الكبيرة، وحماية صناديق التوفير الشعبية، يعارض التأمين الصحي الأساسي وينحو إلى رأسمالية استغلالية متوحشة.

من الصعوبة التنبؤ بسياسياته المستقبلية وهو القادم من خارج المؤسسة والتجربة الحكومية، ولكن من الواضح بأن تغييرا جذريا سيطرأ على المشهد الأمريكي والعالمي، وأسئلة كبيرة تطرح نفسها، وهل ستسود حالة من الإنعزالية أم التدخلية في السياسات الأمريكية الخارجية؟

ترامب الذي بدا وكأنه يعمل منفردا وقادم من هامش المؤسسة وخارج حساباتها، يسعى أقطاب الحزب الجمهوري بما فيهم منتقديه ، لجلبه ثانية إلى حظيرتهم، فيختار مساعديه من العناصر الأكثر تطرفا وأصولية في هذا التكتل السياسي.

على الصعيد الخارجي، من الواضح بأن الرئيس الجديد يسعى لتغيير الأسس التي قام عليها حلف شمال الاطلسي ويرفض مبدأ الحماية الأوتوماتيكية تجاه الأعضاء ، ويؤكد : لا حماية للحلفاء بدون مقابل! يقول بأنه سيوجه الضربة الأولى تجاه داعش ويبحث عن أرضيات مشتركة للتفاهم مع روسيا والصين، ويعتبر تركيا الحليف الأقوى لأمريكا ضد “الدولة الإسلامية”، بينما يُعبر حزب العدالة والتنمية عن ارتياحه من نوايا ترامب في إطلاق يد أردوغان في ملفات حقوق الإنسان وسجن الصحفيين والأكاديميين وقمعه للأكراد في جنوب البلاد!

وما يزال موقفه من إيران ملتبس بين التفاهم مع الحليفة روسيا، والتنويه بإيران التي  تقتل داعش وبين مطالباته بضرورة إعادة التفاوض على الصفقة النووية!.

المفارقة هي أنه بينما تقوم بعض الأطراف اليهودية في الولايات المتحدة باتهام ترامب وإدارته الجديدة باللاسامية، فإن هذه الادارة مرشحة بأن تكون الأكثر قربا من “اسرائيل” عبر مر التاريخ. يتساءل البعض هل سيكون عصر ترامب نهاية للقوة الأمريكية الناعمة؟! ولكن هل كان هناك حقا قوة ناعمة في تاريخ السياسة الأمريكية!؟ هل كان غزو العراق بذرائع واهية، وأفغانستان، وقتل المدنيين في الباكستان واليمن وغوانتنامو وفضيحة أبو غريب قوة ناعمة !؟

هل سيهتم ترامب بترميم الصورة الأمريكية، ورسائلها في التغلب على العبودية والعنصرية وانتخابها رئيسا أسودا والتصدي لتزعم “العالم الحر”، أم أن أمريكا المُثل العليا قد إنتهت أو أنها لم تكن موجودة أصلاً ؟!

ترامب لم يكن سوى نتاج الصراع الإجتماعي الأمريكي، وتفاقم الأزمة الرأسمالية في لحظة معينة ، وصوله إلى السلطة سيدخل العالم في صيرورة جيوسياسية جديدة ، ملامحها الأساسية السلطوية والهوياتية. العنف الرأسمالي الأمريكي سيتصاعد نحو المزيد من العولمة الأمريكية ، والمزيد من الضغط على الشعوب لنهب مقدراتها وثرواتها.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى