تجريف سياسي ممنهج، وحكومة تهرّب أزماتها إلى المجتمع
كان بإمكان محافظ العاصمة أن يرسل كتابا رسميا لحزب الوحدة الشعبية يبلغه فيه قراره بمنع إقامة فعالية إحياء الذكرى السادسة عشر لاستشهاد القائد أبو علي مصطفى. ولكن كيف له أن يعلل هذا المنع، وهو يدرك بأن قراره هذا يخالف قانوني الأحزاب والاجتماعات العامة، ويتعدى على حرية التعبير وجوهر العملية الديمقراطية، وفوق ذلك يسيء لذكرى رمز فلسطيني عربي سجل أنصع صفحات النضال ضد العدو الصهيوني، وسقط على أرض المعركة.
خطوة المحافظ عكست حالة الفشل الرسمي البائن في بناء مجتمع مدني حداثي، يُغلب المصالح الوطنية العليا على الفئوية الضيقة. يتجاوز جوهر الميثاق الوطني، ويخالف القوانين والأنظمة. وبدل من ملاحقة مثيري الفتن والمسيئين للوحدة الوطنية، ويقوم بدوره المسؤول تجاه الأمن المجتمعي، رأيناه يتساوق مع حملة تحريض وكراهية عنصرية غير مسبوقة في تاريخنا السياسي الاجتماعي، تتلاعب فيها الغرائز وجهات متخصصة وأجهزة أمنية، ويسهم في تأجيج تحريف يخلط بين المقاومة والإرهاب، في مقاربة خطيرة تتجاوب مع املاءات القيادة الأمريكية الصهيونية، وتحتشد خلف الترامبية البشعة.
السيد المحافظ قام بدعوة الأمين العام للحزب د. سعيد ذياب إلى لقاء في مكتبه حشد فيه قيادات الأجهزة الأمنية، ليقطع الطريق عن إمكانية إجراء أي نقاش منتج حول الموضوع، ويدفع الأمور للسجال والتخويف وفرض القرار العرفي “تحت طائلة المسؤولية”!!
وهي حالة تعامل معها الرفيق الأمين العام بكل حكمة ومسؤولية وطنية تجاوزت الفخ المنصوب، بدفع الجميع للانكفاء عن الصراع السياسي والاقتصادي الديمقراطي، وزج المجتمع في صراعات عبثية خاسرة.
بممارسته تلك، يعبر محافظ العاصمة بوضوح عن الحد الذي بلغه استبداد السلطة ومحاولات هيمنتها على الفضاء السياسي والثقافي وكل نشاط مجتمعي من شأنه الارتقاء في بناء المجتمع وتعزيز الشراكة، ويكشف المدى الذي وصلت إليه حالة الحكومة من تدني بالوعي السياسي، وحجم الاختراق التطبيعي في مفاصلها.
لقد شكلت الحكومات في العقود الماضية، مسارا تبعيا بتراجعها عن حيازة الولاية العامة، وافتقادها للمهام والأدوار السياسية ومهارات التواصل والحوار مع الناس والقوى المجتمعية، فاستغلت أوضاع الإقليم لتسبغ على المشهد السياسي مظاهر التوتير وغلبة الدور الفردي الاقصائي الارتجالي، وغياب الرؤية والبرنامجية. فسادت الفوضى والإنعزالية، وتبددت الثقة بين النخب السياسية والرأي العام والحكومة، وازدهرت وسائط الإعلام الصفراء والتحريض المنفلت على شبكات التواصل الاجتماعي، حيث يتحول الاختلاف بالرأي إلى خلافات شخصية ومهاترات هابطة.
فيما عجزت التعديلات الدستورية عن السير باتجاه حكومات برلمانية ومن تحقيق توازن معقول في الصلاحيات بين السلطات في ظل قانون انتخاب مشوه، شطب القوائم الوطنية على تواضعها، وأبقى سلبيات الصوت الواحد، وأضعف من دور الأحزاب ومؤسسات المجتمع المدني.
لقد جرت كل الاستحقاقات الانتخابية مؤخرا في ظل سلبية وتجريف سياسي ممنهج، حيث افتقدت كل الانتخابات التي تمت للزخم السياسي، وسادها سلبية في أداء الأحزاب والنخب السياسية والمثقفين. أدى ذلك إلى عزوف خطير عن المشاركة للمدن الكبرى، واقتصار الحضور على تواضعه، للبنى والتركيبات الاجتماعية تحت الوطنية والمال السياسي وأصحاب الدوافع والارتباطات الشخصية.
وبدل من أن تشكل هذه الانتخابات فرصة لتجديد النخب والارتقاء بالحالة السياسية، أفرزت حالة مستعصية من تأجج الخلافات المجتمعية، وهبوط في مستوى الأداء على معظم الأصعدة.
تراكمت جملة من التحولات العميقة أفرزت تحالفا طبقياً طفيليا، يغلب عليه طبقة الكمبرادور والمقاولين وسماسرة البزنس والمال، أثرت بشدة على النسيج المجتمعي، وأضعفت من “العقد الاجتماعي” وجوهر العلاقة بين المواطن والدولة، أوصل البلاد إلى أزمة اقتصادية واجتماعية خانقة، أدت إلى عجز الدولة عن الاستمرار بالقيام بدورها الريعي، الأمر الذي أثار ارتباكا وتوترا في علاقتها مع شرائح اجتماعية واسعة. وبدل من الإجابة عن التحديات والتعامل مع استحقاقات الأزمة برؤية إصلاحية مستحقة، أخذت بتوجيه التناقض باتجاه تأجيج النزاعات البينية الهوياتية الخطيرة ثم بالإتكاء عليها لتفتيت وحدة المجتمع وإضعافه. وبدا بأن أكثر الطبقات تمتعا بالامتيازات، هي أكثرها راعية للفساد وعرابا للتبعية ومعرقلة للإصلاح ومعطلة للعدالة وسيادة القانون.
مشكلتنا اليوم ليست مع أفراد عنصرية كارهة، ولا حتى مع الحملة الممنهجة في محاولات تفكيك الهويات الوطنية من حولنا وخطر عدوى ارتدادها للداخل، بل مع الخطر الصهيوني وأطماعه المتزايدة في فلسطين والأردن والمنطقة العربية.
وتحدياتنا الداخلية تتمثل في التصدي لنزوع المجتمع نحو التطرف والعنصرية والأصولية بمختلف أشكالها، وفي انتشار المخدرات والأسلحة والتنمر على القانون ومكانة الدولة، في الفساد الإداري والبيروقراطية الرثة، في التخبط الاقتصادي والفشل في معالجة الاختلالات، في الاقتصاد التبعي وسياسات الإفقار والجباية المتصاعدة والضغوطات الحكومية الظالمة على معيشة المواطن وأمنه الصحي والاجتماعي.
اللحظة الراهنة تعد بمثابة مرحلة انتقالية فاصلة في حياة الأردن والمنطقة، نحن بحاجة ملحة لإعادة ترتيب الأولويات السياسية والاجتماعية.
قد نختلف حول السياسات الاقتصادية والاجتماعية وملف الإصلاح السياسي وقوانين الانتخابات، ولكن علينا التوافق على القضايا الأساسية، وما هي طبيعة الدولة التي نريد، ومفهوم المواطنة. تفاهمات وطنية تعيد قراءة الميثاق الوطني وتعيد ترسيم القيم الحاكمة، وتلتفت إلى المرتكز الثقافي الاجتماعي والسياسي، وتحصن جبهتنا ضد المشروع الأمريكي الصهيوني.
لتكف الحكومة عن سياسة الوصاية على المجتمع وقواه وأنشطته وقيمه الديمقراطية، ولنلتفت إلى الشباب وتمكين المرأة والتعليم بأشكاله.
إن تأمل دروس الماضي، حتى الأليم منها، يجب أن يشكل حافزا من أجل مكافحة الكراهية والانقسام، على طريق تغليب الشراكة وتعزيز قيم الديمقراطية وبناء المستقبل.