انتخابات اللامركزية: صراعات داخل الحلف الطبقي الحاكم وغياب حزبي وتجربة قد لا تتكرر
برعاية ودعم أمريكي سخي، انطلقت عجلة انتخابات اللامركزية (مجالس المحافظات). الانتخابات التي خرجت إلى النور بعد مخاض عسير، وصراع ظهر إلى العلن بين أقطاب الحلف الطبقي الحاكم، راح ضحيته رئيس مجلس الأعيان –في فترة إقرار القانون- عبد الرؤوف الروابدة، حيث تم “قبول استقالته من رئاسة مجلس الأعيان”.
اللامركزية في الأردن: صراع داخل الحلف الطبقي الحاكم
انطلقت فكرة اللامركزية في الأردن في عام 2004، من خلال حديث الملك عبدالله الثاني عن توزيع المحافظات إدارياً إلى ثلاثة أقاليم: إقليم الشمال، وإقليم الوسط، وإقليم الجنوب. على أن تكون هذه الأقاليم مسؤولة عن الاستثمار والمرافق العامة والمصاريف العمومية والعمل الحكومي على مستوى كل إقليم.
وعلى الرغم من تشكيل لجنة ملكية للأقاليم، إلا أن فكرة الأقاليم قوبلت بمعارضة كبيرة، بل إن بعض القوى المعارضة، وقوى من داخل الحلف الطبقي الحاكم، ربطت بين مشروع الأقاليم الثلاثة والحل النهائي للقضية الفلسطينية، حيث رأى هؤلاء أن مشروع الأقاليم توطئة لمشروع أمريكي لحل القضية الفلسطينية على حساب الأردن.
تراجعت فكرة الأقاليم نتيجة هذه المعارضة الشديدة، ليعاود الملك طرحها في خطاب العرش عام 2008، ولكن هذه المرة كانت فكرة التقسيم مبنية على المحافظة وليس الإقليم.
استمرار المعارضة من داخل وخارج الحلف الطبقي الحاكم، ساهم في كبح جماح التسارع نحو تطبيق اللامركزية. ليأتي الحراك الشعبي في عام 2011، الذي أدى إلى انشغال النظام بالحفاظ على ديمومته على حساب أية مشاريع متعلقة باللامركزية.
البطران: النظام الانتخابي لمجالس المحافظات جاء تفتيتيا، يصلح لانتخاب مخاتير للأحياء والقرى والمخيماتعادت فكرة اللامركزية لتطرح بقوة عقب تجاوز النظام مرحلة “الربيع العربي” والحراك الشعبي، فعُرض على مجلس النواب، فكانت جلسة إقراره هزلية ساخرة، حيث أقر المجلس مواداً في الجلسة الصباحية ليتراجع عنها في الجلسة المسائية. ثم جاء الدور على مجلسا لأعيان الذي رفض إعطاء صفة الاستقلالية الإدارية والمالية لمجالس المحافظات، وتم إقامة جلسة مشتركة بين المجلسين كانت الغلبة فيها لوجهة نظر مجلس الأعيان بعد مداخلة “حاسمة” من قبل رئيسه عبدالرؤوف الروابدة.
لم تنتهي “دراما” قانون اللامركزية عند هذا الحد، فقد قام الملك ووفقاً لصلاحياته برد القانون بسبب وجود “شبهة دستورية” في المواد التي أقرت خلال الجلسة المشتركة لمجلس الأمة، حيث أن الفقرة (أ) من المادة (6) من مشروع القانون، المشار، لا تتوافق والقرار التفسيري الصادر عن المحكمة الدستورية، رقم (1) لسنة 2015، والمستوفي لشروطه الدستورية، مما يسمُها بعدم الدستورية، ويجعلها مخالفة لأحكام المادة (121) من الدستور”.
ليعود مجلس الأمة ليقر القانون بإعطاء صفة الاستقلالية المادية والإدارية لمجالس المحافظات، وليتم بعدها مباشرة قبول استقالة عبدالرؤوف الروابدة من رئاسة مجلس الأعيان، جزاءً له على محاولاته عرقلة إقرار قانون اللامركزية.
مجالس محافظات منزوعة الصلاحية
لم يكن لمشروع اللامركزية أن يمر مرور الكرام دون أن تقوم الحكومة بنزع “الدسم” منه. فالمادة السادسة من قانون اللامركزية أعطت الحكومة الحق بتعيين 15% من أعضاء مجلس المحافظة، فيما تعيين يكون المجلس التنفيذي كاملاً من صلاحية الحكومة.
كما أعطى القانون مجلس الوزراء حق حل مجالس المحافظات المنتخبة وفق شروط “مبهمة”، وذلك وفق المادة (36/ب) ما يجعلها سيفاُ مسلطاً على رقاب أعضاء مجلس المحافظة.
ولا يقتصر الأمر على قانون اللامركزية، فالنظام الانتخابي لمجالس المحافظات جاء تفتيتيا، يصلح لانتخاب مخاتير للأحياء والقرى والمخيمات، أكثر من كونه يؤسس لنمط إدارة جديد للدولة، يعاكس تماماً من حيث المبدأ النمط الذي تأسست الدولة عليه وساد أسلوب الإدارة بها منذ تأسيسها قبل أكثر من 100 عام، وذلك وفق ما صرح به الأستاذ علي البطران مدير مركز عمون للدراسات، لـ نداء الوطن.
ويرى البطران أن تقسيم المحافظات الكبيرة إلى أكثر من 30 دائرة إنتخابية “اللامركزية”، بممثل واحد فقط في غالبية الدوائر، وممثلين اثنين في بقية الدوائر لا ينتج أبدا تنافسا على البرامج التنموية، وإنما منافسات بين ممثلي عشائر وأصحاب المال الإنتخابي الأسود! ولو كان النظام الإنتخابي لمجالس المحافظات على أساس القوائم النسبية على مستوى المحافظة لشهدنا نوعاً آخر من التنافس ونوع آخر من المرشحين المتنافسين!
غياب الأحزاب عن المشهد الانتخابي
المعطيات التي أشرنا لها أعلاه، انعكست بشكل واضح على المشاركة الحزبية في انتخابات اللامرزكية. فيكاد المشهد الانتخابي يكون خالياً من الأحزاب الأمر الذي يضع علامة استفهام على قدرة المجالس المنتخبة على تقديم رؤية واستراتيجية قادرة على النهوض في المحافظات وإنجاح التجربة التي يخضوها الأردن لأول مرة في تاريخه المعاصر.
الرفيق عمار هلسا عضو المكتب السياسي لحزب الوحدة الشعبية ومسؤول منطقة الجنوب في الحزب يؤكد في حديث خاص لـ نداء الوطن أن المتتبع لمفاعيل العملية الانتخابية الجارية في البلد إن كان لمجالس المحافظات أو للمجالس البلدية يلاحظ غياب شبه كامل للأحزاب السياسية بمختلف مشاربها الفكرية عن التعاطي الجدي مع هذه الانتخابات سواء بالترشيح أو الترويج والتفاعل الشعبي، ورغم الجهود المكثفة التي تبذلها الأجهزة الحكومية والهيئة المستقلة للانتخابات إلا أن الصورة بقيت كما هي لا بل لم يقتصر هذا الانكفاء وعدم الاهتمام على الاحزاب السياسية بل يلاحظ عدم إهتمام شعبي كذلك بالمعركة الانتخابية الدائرة ويقتصر النشاط الانتخابي على المرشحين ومجموعة ضيقة محيطة بهم مما يؤشر إلى تدني نسبة الاقتراع عن سابقاتها واعتقد أن اسباباً كثيرة تراضخت مع بعضها البعض أدت إلى هذه الحالة غير المسبوقة.
هلسا: المواطن فقد الثقة في مؤسسات الدولة التي لم تعد قادرة بتركيبتها على القيام بالدور الذي يتطلع ويطمح لهويرى هلسا أن أهم هذه الأسباب أن الشعب بمختلف طبقاته وفئاته وانتماءاته الاجتماعية والسياسية فقد الثقة في مؤسسات الدولة المختلفة _ منتجة أو معينة _ التي لم تعد قادرة بتركيبتها على القيام بالدور الذي يتطلع ويطمح له الشعب، وهذا ما يفسر غياب شخوص الصف الأول وحتى الثاني من القيادات المحلية والفاعلين في العمل العام عن التقدم لخوض تجربة الانتخابات الحالية.
أما القيادات والفعاليات الحزبية فإن سبباً آخر لايقل أهمية عن سالف الذكر وهو ترشح القناعة عند الاحزاب السياسية بمختلف مشاربها الفكرية والسياسية بعبثية المشاركة في ظل النظام الانتخابي المعتمد وعلى كافة المستويات من المجلس النيابي وحتى البلديات وهو نظام أو قانون الصوت الواحد بتجلياته المختلفة الذي يغلق الطريق أمام الائتلافات الحزبية أو البرامجية. ويبقى الثقل الانتخابي لمرشح العشيرة أو المال “السياسي” فيجد مرشح الحزب نفسه مضطراً أن يساير ويحابي الانتماء الفرعي (العشيرة) على حساب الانتماء الوطني (الوطن) بعيداً عن برنامجه ورؤاه التنموية المستمدة من خلفية فكرية وسياسية حتى في حال نجاحة يجد نفسه رهينة للقاعدة التي أوصلته.
ورأى الرفيق هلسا أن قانون الصوت الواحد أدى مهمته التي أنيطت به وهي تهميش دور مؤسسات الدولة المنتخبة من خلال إقصاء القيادات والكفاءات الوطنية الغيورة عن شغل مواقعها في تمثيل الشعب بحيث أصبحت هذه المؤسسات أدوات طبعت في يد السلطة التنفيذية وأصحاب القرار المتنفذين.
فيما يعتبر الأستاذ علي البطران أن الأحزاب بشكل عام والأحزاب القومية واليسارية بشكل خاص أضاعت فرصة تاريخية للاصطدام الإيجابي بالجماهير على المستوى المحلي، من خلال ما أتاحه قانون البلديات لها من فرص التحالف سواء مع أعضاء من أحزاب أخرى، أو مع قيادات وناشطين محليين..
ويرى البطران أنه للمرة الأولى قسمت غالبية البلديات إلى مجالس محلية عوضا عن المناطق يتم إنتخاب خمسة أعضاء في كل مجلس -أحد هذه المقاعد خصص للنساء-، كما جاء النظام الإنتخابي لهذه المجالس المحلية صديقا للأحزاب والائتلافات والتحالفات، حيث يحق للناخب التصويت لكامل أعضاء المجلس، مما يتيح صياغة برامج تنموية ترفع من سوية الخدمات المحلية وتسهل عملية التحالف حول هكذا برنامج.
ويؤكد البطران على أنه لا يستطيع أبداً تفسير هذا الحضور المتواضع جدا لكامل الأحزاب الأردنية الـ (51)، حيث بلغت نسبة المرشحين الحزبيين 1% فقط من مجموع المرشحين لكل من البلديات ومجالس المحافظات! وهو الأمر الذي يعكس مسألتين –وفق البطران- ، أولهما “ذاتية” ناتجة عن لامبالاة الأحزاب وربما عدم قدرتها على منافسة القيادات الاجتماعية والناشطين على المستوى المحلي. والثانية “موضوعية” فرضها قانونا البلديات واللامركزية حين اشترطا استقالة الموظفين في القطاع العام وشبه الحكومي في حال قرروا الترشح سواء في البلديات أو مجالس المحافظات، حيث حرم هذا الشرط غير المنطقي البلاد من فرصة ترشح كفاءات حقيقية كانت ستثري المشهد وبالأخص منها كفاءات حزبية تشغل وظائف في القطاع العام، ولم ترغب بالمغامرة بوظائفها من أجل فرصة قد لا تكلل بالنجاح، وحتى وان حالفهم النجاح فالمردود المالي “المخصصات” متواضعة إلى حد كبير مقارنة ربما بالمردود المالي لوظائفهم الحالية.
تجربة اللامركزية جاءت بعد مخاض عسير، ويبدو أن فرص نجاحها المحدودة جاءت نتيجة غياب الإرادة السياسية للحلف الطبقي الحاكم بالتوازي مع خشية حزبية من أهداف غير معلنة لهذه التجربة وعدم ثقة بمنتجات حكومية لم تسهم إلا بالمزيد والمزيد من تراجع الحضور الحزبي وتحجيم دورها.