بورتريه

الياس مرقص… ودعوة لإنصافه / فايز الشريف

رغم المكانة الكبيرة التي كان يتبوؤها المفكر العربي الكبير الياس مرقص وإنتاجه الفكري الغزير، ورغم العمق الذي كان يتناول به موضوعات أبحاثه، وفرادة هذه الأبحاث والحاحيتها، إلا أن المثقفين العرب لم ينصفوه، ولم يعطوه حقه من القراءة والبحث. ولا شك أن ذلك يطرح أكثر من تساؤل عن أسباب عدم الإنصاف هذا، إن كان بسبب عدم الاقتناع بإلحاحية الموضوعات التي كان يتناولها في أبحاثه، أم بسبب عدم القناعة بنتائج هذه الأبحاث، أم لأسباب أخرى ابعد من ذلك.
وحتى نجيب على هذه التساؤلات لا بد أن نبرز بطاقة التعريف بهذا المفكر العربي الكبير. فقد ولد الياس مرقص عام 1929 في مدينة اللاذقية بسوريا، أرسل في بعثة للدراسة في بلجيكا عام 1945 كأول ابتعاث لطلبة سوريين بعد الاستقلال حيث حصل على شهادة مجاز في علم الاجتماع والتربية من جامعة بروكسل الحرة، وعمل في مجال التعليم في الفترة بين سنتي 1952 – 1979 في اللاذقية. انتسب الياس مرقص إلى الحزب الشيوعي السوري في أواخر الأربعينات وتركه أو طرد منه في العام 1957 . بدأ الترجمة والتأليف في العام 1955 وساهم في مجلة دراسات عربية وإنشاء دار الحقيقة وإصدار مجلة الواقع وتأسيس مجلة الوحدة في الرباط كما ساهم وبفعالية في العديد من الندوات الفكرية العربية منها والعالمية.
لقد كانت تتميز غزارة الإنتاج لدى مفكرنا الكبير بعمق في تناول معضلات الواقع وبجرأة في طرح النقد وبتفانٍ في البحث عن الحقيقة. فمؤلفاته زادت عن سبعة عشر مؤلفا، وترجماته زادت عن ثلاثين كتابا، وقد ترك لنا أكثر من تسعة مخطوطات من مؤلفاته وأربعة ترجمات منها ما نشر ومنها ما لم ينشر بعد وفاته، هذا إضافة إلى كم كبير من المقالات المنشورة في عدة مجلات ودوريات وجرائد ونشرات.
كما أسلفنا بدأ الياس مرقص الكتابة والترجمة عام 1955 وما تلاها، حيث كان الصراع على أشده بين طرفي حركة التحرر العربية المتمثل في الحركة الشيوعية من ناحية، والحركة القومية العربية من ناحية ثانية، واستمر هذا الصراع بأشكال عدة، وشمل ساحات عربية متعددة. كما طرح هذا الصراع مسائل فكرية، ومعضلات فلسفية، لا يمكن بغير تناولها وحلها إحراز وحدة هذه الحركة في مواجهة التحديات الكبرى، والمعضلات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وهذا يتطلب وقفة جريئة مع الذات، وطرحا فكريا معمقا لقضايا الخلاف، يخرج بنتائج يعيد اللحمة لحركة التحرر الوطني العربية، ويرفع من شأنها، ويدفع نحو استنهاضها، وتعميق رؤيتها وقدرتها لقيادة التقدم الفعلي.
كتب مرقص في كثير من المواضيع الهامة والحساسة، تناول بالبحث الموقف من المسألة القومية، انتقد الكثير من أطروحات الأحزاب الشيوعية العربية، وبحث في مسألة تعريب الماركسية. كذلك قدم نقدا للفكر القومي وأطروحاته، وترجمات رؤيته على ارض الواقع. وبعد هزيمة عام 1967 تناول بالبحث والنقد العديد من أطروحات المقاومة الفلسطينية، وعفوية النظرية في العمل الفدائي، كما كان له مواقف وأبحاث تتناول الديمقراطية والمجتمع المدني.
لقد تناول مرقص بالبحث والتحليل والنقد الأطروحات الماركسية من قضايا التحرر والاستعمار والامبريالية ومسائل الاستقلال والتبعية، كما ناقش في مسائل الوحدة العربية والاندماج القومي وكذلك الصراع العربي الصهيوني. ولقد جمع مرقص بشكل خلاق ما بين الماركسية والقومية بحيث «كان ماركسيا في قوميته وقوميا في ماركسيته».
وباعتبار أن القضية الفلسطينية هي احد أهم قضايا المسألة القومية العربية، انتقد مرقص في أوائل السبعينات المقاومة الفلسطينية بوصفها قد أعطت مبررا للتقاعس العربي في تحمل مسؤوليتهم المباشرة تجاه القضية الفلسطينية. لقد اختلف مرقص مع المقاومة الفلسطينية لأنه كان يرى بان تحرير فلسطين يمر عبر الوحدة والإرادة القومية.
وفي حواره مع الماركسيين العرب دعا مرقص إلى تعريب الماركسية بمعنى إعادة إنتاج كاملة لماركسية ماركس ولينين في ظروف الواقع العربي… كما ذكر بان التجدد الفكري والثقافي هو شرط نجاح الحزب في الحوار والاندماج مع الحركة الواسعة للجماهير العربية.
أما في مجال نقده للفكر القومي فقد انطلق من أن حجر الأساس في هذا النقد هو أن القومية مبدأ تقدمي، لكن هذا المبدأ محكوم من ناحية بالنشوء والتكون التاريخي للأمة العربية، ومن ناحية ثانية بالصراع الطبقي.
وحول الديمقراطية انطلق مرقص من ان الفرد الحر المستقل هو ركيزة بناء الأمة وتطورها. كما فرق ما بين الديمقراطية والليبرالية، حيث الليبرالية هي موقف اعتراف بنخب حزبية، مثقفين، أحزاب برجوازية…الخ. بينما الديمقراطية هي موقف اعتراف بجماهير هي كتل كبير مهمشة ويجب أن تتحول إلى ذات تاريخية وسياسية. كما ركز مرقص على أهمية المجتمع المدني والحاحيته لبناء الذات القومية.
مثلما رأينا في هذا الاستعراض السريع نجد ان مفكرنا الكبير لم يترك مفصلا من مفاصل حركة التحرر العربية الا وتناوله بنقد جريء ومتماسك ولاذع في نفس الوقت. ولم يكن هدفه من ذلك الا البناء والتقدم شريطة نفض الغبار عن الذات والانطلاق بشكل أقوى. لكن الإطراف المتعددة التي تناولها مرقص بنقده لم تكن على استعداد لتقبل النقد خاصة أيام سطوتها.
جميع الإطراف التي طالها النقد اللاذع أصيبت بردة فعل سلبية لم تمعن النظر في حقيقة أطروحاته وصوابيتها. وان كان قد تم الأخذ ببعض هذه الأطروحات فقد جاء ذلك متأخرا بعد أن كلف ذلك حركة التحرر العربي الكثير من الخسائر والهزائم.
ان تركة المفكر الكبير الياس مرقص بحاجة إلى قراءة معمقة. فرغم رحيله عام 1991 إلا انه لا زال شاهدا بكتاباته على واقعنا الراهن. فهل ننصف هذا الكاتب وننصف أنفسنا بالتفكير والتمعن في أطروحاته؟؟؟

بواسطة
فايز الشريف
اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى