المهدي بن بركة، مسيرة مظفرة.. وفاجعة الرحيل
ولد المناضل بن بركة في مدينة الرباط عام 1920، وظهرت عليه الملكات النضالية في سن مبكر، في عمر الـ 24 قدم وثيقة الإستقلال إلى الملك محمد الخامس، وخاض حواراً ساخنا مع الفرنسيين، وقدم وجهة نظر نقدية لهذا الحوار عندما شعر بأن الفرنسيين يدفعون لتسليم البلاد إلى الإقطاع بتلاوينه المختلفة، وقد اعتقل بعدها لمدة عام كامل.في عمر 25 عاماً، أسس حزب الاستقلال وترأسه، عام 1951 أمر المقيم الفرنسي العام بإعتقاله كونه أعتبر من أخطر أعداء الحماية الفرنسية للمغرب، حيث نفي إلى سجن صحراوي معزول للجم أنشطته واتصالاته مع حزبه ومع جبهة التحرير الجزائرية والحركة الوطنية المغربية، فأصدر نشرة جامعة، وبقي قائداً فعالاً ينظم حزبه ومجتمعه ملمّاً بتفاصيل الأوضاع السياسية والإجتماعية، وأفرج عنه بعد أربعة أعوام.
أعاد تنظيم حزب الاستقلال بإبعاد الاتجاهات الإقطاعية والمهادنة، ومد روابط تنظيمية مع النقابات وحركة المقاومة المسلحة في الريف. بعد عامين أصبح رئيساً للمجلس الوطنيي الاستشاري. وفي عام 1959، قدم استقالته من الاستقلال وعمل بفعالية في تشكيل الاتحاد الوطني للقوات الشعبية لإبقاء جذوة المقاومة متقدة في ضمير الجماهير وقواها الحية!
في نفس الفترة تم تعليق الحياة النيابية في المغرب لفترة أربع سنوات، ولكنه عاد نائباً في البرلمان المنتخب عام 1963، وغدا رمزاً للنضال الوطني وانبعاث الحركة الشعبية.
تميز بكاريزما وذاكرة قوية وقدرة لافتة على الخطابة البليغة المبسطة دون مراوغة، كما تميز بقدرات تنظيمية مشهودة في قيادة الميدان والإنتاج الفكري، وأضحى مثالا للمثقفف الثوري الفاعل داخل المغرب وعلى مستوى الدول النامية.
في نفس العام ارتُكبت ضده محاولة إغتيال، وأدرك بأن الحياة الديموقراطية السلمية تواجه آفاقاً مظلمة في المغرب، فأرسل عائلته إلى القاهرة. ثم دفعه رفاقه للمغادرة حفاظاًً على حياته، وقد بدأ الحسن الثاني يرى فيه منافسا خطيراً.
شغل منصب رئيس لجنة حركة التحرر في منظمة التعاون الأفرو-آسيوي، فعمل على تقوية الروابط بين أعضائها، وفي هذا الإطار زار معظم الدول الأفريقية والآسوية، ودعا إلىى تحرير الشعوب في عالم تسوده العدالة والسلام.
صديق عبد الناصر ونهرو وكاستر وتيتو وسوكارنو، وعندما كان يُسأل عن تشعب واجباته كان يجيب “الهم المغربي هو الأساس”!
في غضون عامين، تحول بن بركة إلى مناضل مزعج تجاوز حدود المغرب بكثير، وتوسعت مروحة أعدائه لتشمل أيضاً، الكيان الصهيوني وأمريكا والدوائر الغربية، وتبعه الموسادد والاستخبارات الأمريكية أينما ذهب.
نهاية العام 1965، رتبت له هذه الأطراف مؤامرة اغتيال وحشية محكمة، نفذتها شبكات جريمة رسمية ومرتزقة.. فإستدرج إلى باريس بدعوة من صحافي ومخرج فرنسيين بذريعةة التنسيق لوضع فيلم عن حركات التحرر، أثناء لقائه مع مضيفيه، تقدم منه ضابطا أمن فرنسيان وطلبا منه الصعود إلى سيارة شرطة قريبة ينتظر في داخلها ضابطان آخران، حشر بين المجموع ثم اختفى.
بعض الشهود يؤكدون بأنه قد حُقن داخل السيارة بجرعة قوية، وتم اختطافه في ليلة ماطرة إلى فيلا معزولة داخل غابة في شمال باريس، حيث كان بالانتظار أحمد الدليمي معاونن وزير الداخلية المغربي وقائد مخابراتها مع عدد من أعوانه الذين بادروا بالتحقيق معه وتعذيبه بوحشية على مدى ثلاث ساعات.. حرقوا جسده بأعقاب السجائر والصعقات الكهربائية والإغراق بالماء دون أن يستطيعوا أن ينتزعوا منه شيئا، وصل إلى المكان الجنرال محمد أوفقير وزير الداخلية.. استل خنجرا وراح يطعنه في صدره وظهره لإجباره على الكلام، ولم يلبث أن فارق بن بركة الحياة.
كل الأطراف المعنية بقضية الاغتيال تمعن في إخفاء الحقائق، وحتى الآن تعرقل السلطات المغربية كل أشكال التحقيق.
لا يُعرف مصير جثمان المناضل المغدور، صحف فرنسية قالت بأنه نقل إلى الرباط على متن طائرة أوفقير وتم التخلص منه في المغرب، وحاول الحسن الثاني بشتى الوسائل إبقاءء الإتهام بمستوى أوفقير والدليمي. بعد هذه الواقعة، أعادت “إسرائيل” تنظيم وحدة الحراسة الخاصة بالملك وهيكلت المخابرات.
لسنوات طويلة، لاحقت لعنة المؤامرة جميع من تورط فيها.. المخرج والصحافي الفرنسيين وجدا مقتولين داخل شققهم بفترات زمنية متقاربة. أوفقير قتل عام 1973 بعد اتهامهه بالتآمر على الملك، والدليمي قتل في حادث سير عام 1982. الضباط الفرنسيين الاربعة، ماتوا في المغرب في ظروف وحوادث غامضة.
رحل المناضل الشجاع، وما يزال شباب المغرب وطلائعه المناضلة يستلهمون تضحياته وانجازاته ويستذكرون مقولته؛ “لا إستقلال ناجز دون تحرير الانسان من كل استغلال”.
لك الرحمة والمجد أيها المناضل العروبي الحر، بذكراك نعتز وخلف راياتك نسير نحو الانعتاق.