أخبار محلية

المالية العامة في الأردن، أزمة مستمرة: قراءة في أسباب التشوهات

عرضت المالية العامة إلى ضغوط متزايدة عبر السنوات العشرين الماضية بسبب المتغيرات الجوهرية التي حدثت في العالم على كافة الصعد السياسية والاقتصادية وتالياً الاجتماعية.

خاصة بعد تفكك الاتحاد السوفياتي ولحاق الكثير من الاقتصاديات العالمية ومنها الاقتصاد الاردني بالاقتصاد الرأسمالي (اقتصاد السوق) عبر سلسلة من السياسات المالية والاقتصاديةوتعديلات جوهرية على التشريعات التي لها مساس بالاقتصاد على وجه الخصوص والتي وُضعت واقرت مباشرة بعد هذه المتغيرات السياسيةوتأثرت بها الاركان الثلاث التالية للمالية العامة :

اولاً: ركن النفقات العامة:

تعرضت الوظيفة العامة في الاردن لانتهاكات عديدة من خلال وضع تشريعات حمّلت النفقات  العامة أعباء كانت اكبر من الزيادة التي وقعت على الايرادات العامة خلال السنوات العشرين الماضية من عمر الاردن والتي كانت على سبيل المثال تتعلق بـ :

1.إنشاء الوحدات المستقلة ونزعها من مظلة الادارة العامة واعطائها استقلالاً مالياً وإدارياً مما عزز من فجوة الرواتب للعاملين فيها قياساً بالرواتب للعاملين في الوزارات الحكومية ودوائرها المختلفة ومما رفع من أعبائها على الموازنة العامة خلافاً للغايات التي أنشئت من أجلها .

2.لجوء الحكومات المتعاقبة الى التعيينات من خلال العقود التي فاقمت من فجوة الرواتب والاجور المدفوعة الى الاشخاص المتعاقد معهم قياساُ بزملائهم بالوظيفة العامة.

3.التعديل على رواتب النواب والوزراء خلافاً لما درجت عليه قرارات مجلس الوزراء التي كانت تراعي رواتب الفئة العليا وفق نظام الخدمة المدنية والتي أعطت لهؤلاء رواتب تقاعدية تزيد كثيراً عن زملائهم السابقين مما حمل النفقات التقاعدية أعباء جديدة من الممكن تلافيها!؟.

4.قامت حكومة معروف البخيت بمحاولة جادة لتحقيق العدالة بين أبناء الوظيفة العامة من خلال إعادة هيكلة الوحدات المستقلة ورواتب القطاع العام بشكل عام هادفة الى جسر الفجوة في الدخول بينهم وإلغاء الكثير من الوحدات المستقلة التي أصبحت عبئاً على المالية العامة, وقد رصدت الحكومة لإعادة الهيكلة مبلغاً لا يزيد عن (80) مليون دينار, وخلاف ذلك تحملت الخزينة جراء تطبيق هذه الهيكلة مبالغ تزيد عن (400) مليون دينار سنوياً بعد ان أسيء استخدامها وتطبيقها من خلال ممارسة ضغوط واحتجاجات أدت الى اعادة النظر ببنودها مما ادى الى زيادة النفقات المرتبطة بها مع ابقاء الحال على ما كان عليه بالنسبة للوحدات المستقلة.

5.تخفيض ملموس للنفقات الرأسمالية لحساب النفقات الجارية مما خفض من واردات الخزينة من الانشطة الاستثمارية التي كان مأمولاً منها تخفيض أعباء الضرائب على المكلفين والمديونيةزيادة النفقات العسكرية نسبة الى النفقات العامة او الناتج المحلي الاجمالي حيث وصلت هذه النفقات في سنة 2017 الى نسبة (26%) من النفقات العامة وما نسبته (28%) في سنة 2018 والى نسبة تزيد عن (9%) من الناتج المحلي الاجمالي خلافاً للمؤشرات العالمية التي لا تتجاوز نسبة النفقات العسكرية فيها عن (10%) من النفقات العامة ومن (3-5%) من الناتج المحلي الاجمالي بالاضافة الى عدمخضوعها الى المراجعة والتدقيق من ديوان المحاسبة او أي جهة رقابية مستقلة.

 من هنا نجد ان اعادة هيكلة النفقات عبر العناوين اعلاه, من حيث رفع النفقات الرأسمالية وتخفيف النفقات العسكرية, ودراسة رواتب الوظيفة العامة سواء كانت متعلقة بالعقود والانشاءات او نفقات الوحدات المستقلة وخاصة منها الرواتب ومزاياها من خلال تقليص هامش الفروقات فيه مصلحة وطنية وضرورة اصلاحية كمدخل لتحقيق العدالة بين ابناء الوطن والتخفيف من الاثار الاجتماعية التي تشكل اعمال العنف احد تجلياتها الخطيرة.

ثانياً: ركن الضرائب:

 نجحت المالية العامة ما قبل 1995 في تحقيق رسالة ضريبة الدخل من حيث تقليص الفجوة في الدخول بين المكلفين من جهة, وفي رفد الواردات المحلية بتحصيلات أفضل للخزينة من جهة ثانية, وفي توجيه رأس المال لتوظيفه في استثمارات كان الأردن بحاجتها كثيراً من جهة ثالثة, بالإضافة إلى نجاحها في مراعاة ما نصت عليه المادة (111) من الدستور الأردني التي تحدثت عن التصاعد بشقيه الشرائح الخاضعة للضريبة والنسب الضريبية حيث توقفت النسبة عند (45%) على دخل الافراد الذي تزيد دخولهم عن (25) الف دينار بعد تنزيل اعفائاتهم الشخصية والتي بلغت الضريبة التصاعدية عليه مبلغ (7420) دينار بالاضافة الى (10%) خدمات اجتماعية, اما الشركات المالية فقد وصلت نسبة الضريبة المتصاعدة عليها الى(55%) والشركات الاخرى الى نسبة (40%) والصناعة الى نسبة (38%) اما القطاع الزراعي فكان معفياً بالكامل.

لقدتم تعديل قانون ضريبة الدخل واصبح سارياً على سنوات ما بعد العام 1995 حيث اتى التعديل على تخفيض النسب الضريبية والشرائح على دخول المكلفين كافة, وتباعاً تم التعديل مرة اخرى على القانون في السنوات اللاحقة, وتعويضاً عن هذه التخفيضات المتتاليةالتي تمت على ضريبة دخل الاغنياء سواء كانوا افراد او شركات تم وضع قانون الضريبة العامة على المبيعات حيث خضعت الكثير من السلع والخدمات الى ضريبة بدأتنسبتها (7%) ومن ثم رفعت الى (10%) وبعد ذلك الى (13%) واستقرت بعد ذلك على (16%)وحال دون رفعهاالحراك الشعبي الذي انطلق في بداية سنة 2011.

ان السياسات المالية التي تم اتباعها في ركن الضرائب كانت تعبيراً عن انتصار رأس المال المتحالف مع السلطة السياسية امتداداً لانتصار رأس المال عالمياً خاصة في النصف الثاني من عقد التسعينات من القرن الماضي, حيث اعتمدت واردات الخزينة العامة على دخول الاسر والافراد (القوى الشرائية) مما أدى الى انخفاض الطلب على كميات السلع والخدمات وتالياً إلى انكماش اقتصادي اثر على نسبة النمو واخل بميزان المدفوعات انعكاساً لخلل في الميزان التجاري ايضاً, حيث ادت هذه المتغيرات الضريبية الى تركز النقد (الارباح) على شكل ودائع لدى البنوك الظاهر منها ما يزيد عن ال (32) مليار دينار لدى البنوك الاردنية والمبلغ الاكبر تم ايداعه في البنوك خارج الاردن.

في المعالجة لهذا الركن نجد ان العودة الى قانون ضريبة الدخل ما قبل (1996) مع بعض التعديلات على النسب والشرائح ومراعاة التضخم الذي سببته هذه السياسات, واخضاع دخول الافراد والشركات التي تزيد ارباحهم عن (50) الف دينار مثلاً الى نسب ضريبية عادلة، انسجاماً مع نص المادة (111) من الدستور بالاضافة الى ضرورة اعفاء القطاع الزراعي من ضريبة الدخل وضريبة المبيعات على مدخلاته، ومراعاة القطاع الصناعي بالنسبة للضريبة على الدخل  بحيث تقل عن النسب الضريبية على الخدمات مع الغاء النصوص التي تلزم المكلفين على اقراض الخزينة اجبارياً واعفاء تعويضات نهاية الخدمة التي فرضتها التشريعات الضريبية على المكلفين مع مراعاة اعفاء تعويضات الطبقة الوسطى من الاستخدام بطرح بدائل تتعلقبفرض ضريبة دخل على تعويضات نهاية الخدمة التي تزيد عن (20) الاف دينار مثلاً ودخل المتقاعدين الذي يزيد عن (3) الاف دينار, مرافقاً ذلك مع خفض واسع للضريبة العامة على مبيعات للسلعات المساس الواسع بذوي الدخول المتدنية ورفعها بالنسبة للسلع مرتفعة القيمة وذات المساس الواسع بذوي الدخول المرتفعة، انسجاماً مع حاجة الحكومة في توفير موارد مالية مستمرة شهرياً.

ثالثاً: الركن الثالث المديونية:

نظراً لوصول الحكومات الى الحائط في فرض ضرائب جديدة لمواجهة النفقات المتصاعدة سنوياً وحيث ان التعديل علىالنسب الضريبية والتعاطي مع الاعفاءات يثير الكثير من ردود الفعل شعبياً, بسبب الظروف المعيشية للمواطنين بشكل عام وحيث ان الثغرة ما بين الايرادات والنفقات كانت في اتساع،فقد لجأت الحكومات الى الوظيفة الثانية لهذا الركن(المديونية) والمتمثلة في الاستدانة لتسديد عجز الموازنة حتى وصلت المديونية الى حدود (27) مليار دينار وبنسبة تصل الى(95%) من الناتج المحلي الاجمالي.

وبمراجعة لتطور المديونية عبر السنوات العشر الماضية نجد ان الدين العام للسنوات 2006 حتى ايلول/2017 فقد ارتفع من(7350) مليون دينار عام 2006، ليصبح (26893) مليون دينار للعام الحالي 2017 .

 فالمديونية في وظيفتها الاولى مشروعة عندما تكون من اجل إنجاز مشاريع استثمارية تساهم في تراكم ملكية الدولة للموجودات التشغيلية الجاذبة للعمالة والوظائف الداعمة للدخل الذي تحتاجه الخزينة،وهذهالمديونية تلجأ لها الحكومات بهدف تغطية خطط الحكومة في النفقات الرأسمالية المحققة لما سلف، وخلاف ذلك كانت النفقات الرأسمالية خلال عقدين من الزمن في تراجع دائممما فاقم من ازمة المالية العامة على اكثر من صعيد.

ان معالجة حقيقية للمديونية لا يمكن ان تنجح الا بانتعاش اقتصادي شامل مع السيطرة على النفقات الجارية والتعظيم من النفقات الرأسمالية مع انتهاج سياسات ضريبية متفقة مع المادة (111) من الدستور مع تعظيم للنفقات الرأسمالية بحيث تحقق غاياتها في مشاريع انتاجية تعود على الخزينة بالنفع العام مع محاربة جادة لكل مظاهر الفساد والمحسوبية من خلال خطة استراتيجية تعيد للمواطن ثقته بالوطن ومؤسساته المختلفة.

ان خطة وطنية في اعادة العلاقة بين المواطن والوطن تمر عبر الاصلاح السياسي وعبر مشاركة الناس في صنع القرار, فالممارسات الحكومية خلال السنوات الماضية غيبت العدالة على اكثر من صعيد فالتعليم, الوظيفة, النقل, الدخل, العلاج……الخ, جميعها كانت اسباباً في خلق حالة من الاغتراب ما بين المواطن والوطن وعزز من ذلك ما عانت منه المالية العامة من جهة وما تعرض له الوطن العربي من اعتداءات غربية ساهمت في تعريض الحياة المعيشية للمواطنين في الاردن على وجه الخصوص للخطر على اكثر من صعيد ذا علاقة بالوظيفة او فرص العمل التي اصبحت قليلة جداً خارج الاردن بسبب هذه الظروف الاقليمية من جهة ثانية.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى