اللاجئون والهجرة: الوجه البشع للغرب «الديمقراطي»
تثير موضوعة الهجرة حالياً لغطا كبيرا، وتتصدر العناوين الرئيسية للإعلام الغربي، وتنعكس على العلاقات البينية للطبقة السياسية الأوروبية.
وعادت إثارة هذا العنوان مع كل إجراء يتخذه ترامب، وأمام كل استحقاق انتخابي أوروبي، وتتصدر نتائج النجاحات التي تحققها الحكومات الشعبوية في أوروبا، عناوين الاخبار العالمية، متساوقة مع التهويل من «غول» الهجرة، متفوقة على أي سبب مؤثر آخر على التحولات المتسارعة للخريطة السياسية في الأوروبية.بين كل مآسي الهجرة واللجوء، فإن اهتمام المعسكر الغربي لا يرى بها إلا انعكاس هذه الظاهرة على بلدانه ومجتمعاته، لتصبح العامل الأبرز في الصراع السياسي الداخلي، بينما يتنكر هذا الغرب لأسباب الهجرة القاهرة، والمآسي التي تتكبدها قوافل المهاجرين في بلدان الانطلاق، ولا بالموت الجماعي في صقيع الشتاء، أو غرق عشرات الآلاف في أعماق مياه البحر الابيض أوعلى سواحله المترامية.
نهاية الشهر الماضي، طغى على المشهد، صور صياح الأطفال وذعرهم على الحدود الأمريكية الجنوبية، عندما تم انتزاعهم بوحشية عن آبائهم، واحتجازهم في معسكرات أشبه بأقفاص معدنية، بينما تابع العالم، مشاهد سفينة الإغاثة اكواريوس وهي تجوب مياه البحر المتوسط لأكثر من أسبوع، وعلى سطحها 629 من المهاجرين، ثلثهم من الأطفال والذين تم انقاذهم من الغرق، تتقاذفهم الموانئ الاوروبية رافضة استقبالهم.
حدثان، أشرا بوضوح إلى أن تسامح العالم الغربي مع الهجرة قد تلاشى تماما. بدأ ذلك في الولايات المتحدة وانتقل ليغطي معظم دول الاتحاد الاوروبي، كاشفا عن سقوط أخلاقي وابتزاز خسيس لحاجة ملايين البشر إلى المساعدة.
لتوضيح الصورة، فقد كان يصل إلى حدود الاتحاد الاوروبي قبل العام 2015، أكثر من 100 ألف طالب لجوء كل شهر، بينما كانت ميركل تتبجح قائلة: «بأن الحق الاساسي في اللجوء للمضطهدين سياسياً لا يعرف الحد»! وتعرضت هذه الرؤية للهجوم فيما بعد، وتراجعت ارقام المهاجرين بصورة لافتة.
لقد سجل العام 2012 ارتفاعاً قياسيا لعدد النازحين قسرا في عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية، وبلغ عدد هؤلاء عام 2015، 68.5 مليون شخص، أكثر من نصفهم من الأطفال، مشتتين في كل أرجاء العالم، يتواجد 85% منهم في الدول النامية، أربعون مليون من هذا الرقم لا يستطيع الوصول إلى حدود دولية.
وتظهر هذه الأرقام بوضوح، بأن عددا قليلا من هؤلاء يستطيع الوصول إلى الغرب، إما كلاجئين أو طالبي لجوء، أو مهاجرين اقتصاديين، ولكن حتى هذه الاعداد الصغيرة قد أوصدت ابواب الغرب في وجوهها، ويتم التعامل معها بشكل انتقائي انتهازي، ومواجهتها بالاهانة والرفض، في حين أصبحت «مشكلة» الهجرة هي التي تقود السياسة الاوروبية، وباتت النظم السياسية، تتحول لصالح القوى اليمينية الشعبوية، التي تصرخ: «بأننا لا نستطيع استقبال قذارات العالم!!»
منذ عامين، أغلقت منطقة البلقان التي شكلت المعبر الرئيسي لطالبي اللجوء الفارين من ساحات النزاع، عندما وافقت تركيا على ابقاء اللاجئين على أراضيها مقابل الحصول على «مساعدات» نقدية مجزية من «الاتحاد»، بينما استمرت مشكلة اللاجئين العابرين للبحر المتوسط ، بتصدر عناوين الاخبار مع تناقص عددهم مؤخرا بصورة حادة.
رغم تراجع أعداد المهاجين واللاجئين القادمين من الشرق الاوسط وأفريقيا، إلا أن هاجس الهجرة بقي فاقعا في خطاب الحركات اليمينية الشعبوية، وتوظفه بمهارة في استمالة ناخبيها، بإقناعهم أن الاحزاب الاجتماعية والعمالية، ستسمح للمهاجرين بالتدفق دون قيود، في وقت تواجه فيه أحزاب اليسار الأوروبي بمختلف أطيافها، خطر الاضمحلال. ففي أقل من عامين أصبحت معظم هذه الاحزاب تعاني من خسائر قياسية تسببت في تراجعها بينما تختفي الطبقة العاملة التقليدية.
الهزائم المتوالية لليسار الاوروبي، دفعت به إلى مناطق رمادية.. لا هو قادر على اقناع الناخب بضرورات قبول الهجرة بمسوغات الشرعية والمساواة، ولا هو قادر على اقناع أنصاره بضرورة إداره الظهر لقيم «الديموقراطية» والحاجات الإنسانية.
وقد عمق من أزمته، غياب الرؤية السياسية توهانه في ملف الهجرة، وعجزه عن اتخاذ موقف ديموقراطي حاسم بشأنها، كاشفا بذلك عن نقاط ضعفه الهيكلي، بينما تحاول فيه الشعبوية تكريس فكرة؛ بأن الخلاف ليس سوى معركة حياة، ودفاع أصيل عن روح أوروبا وهويتها.
يغيب الآن عن المقاربة الاوروبية والامريكية، الاهتمام بالعوامل الانسانية والاقتصادية والقانونية للهجرة، كما يتم إنكار دور هذا المعسكر ومسؤولياته التاريخية في نهب وتخريب دول المهجر، ويتعمد هذا المعسكر الآن إظهار بأن الفضاء الغربي قد تحول إلى حقل مغلق بالرفض والبوابات المقفلة والسدود المائية، وسط اشاعة صورة نمطية عن مهاجر مكروه، داكن البشرة، وأكثر فقراً، وفي الغالب مسلما. وأن الغرب لم يعد قابلا بتقاسم الموارد الوطنية والفضاء الثقافي والحضاري مع أشخاص يختلفون في رابطة الدم أو الثقافة. غرب كاره، يناقض بذلك مع القانون الدولي، وواجب التدخل لإنقاذ أشخاص في حالة الخطر.. وهكذا لم يعد لنظام اللجوء الدولي الذي تتبناه وتديره الأمم المتحدة أي وجود فعلي، وتحول إلى كيان دون قيمة، وسببا للمتاعب.
مؤخراً، أثار الاتفاق الذي توصلت إليه المستشارة الالمانية بعد محادثات شاقة مع وزير داخليتها -والذي نص على الحد من عدد المهاجرين الوافدين وإعادة آخرين- انتقادات واسعة سواء من داخل ائتلافها الحكومي أو من قبل جيرانها، وظهر بأن الحقبة التي تمكنت فيها ألمانيا من حل الأزمات الأوروبية عن طريق اتخاذ قرارات سياسية محلية قد ولت، وأصبحت طريقة التعاطي مع المهاجرين تؤدي إلى تفجر الخلافات داخل البيت الأوروبي ودوله وصولا إلى ائتلافاته الحكومية، في وقت تعلن فيه الإدارة الامريكية بأنها لم تعد بحاجة إلى أوروبا قوية موحدة لإدارة الاستقرار الدولي.
وهكذا شهدنا ابتعاد بريطانيا عن الاتحاد الأوروبي، وتراجع التأثير السياسي للثنائي الألماني الفرنسي، وبات التحالف اليميني الشعبوي الذي يضم هنغاريا والنمسا وإيطاليا ووزير الداخلية الألمانية، بهدد مجمل الصيغة التي قام عليها الاتحاد الاوروبي.
يسعى الجميع الآن لإلقاء تبعات المهاجرين على ما يسمى «منصات الهجرة» والدول النامية، وهكذا يكلفون دول شمال أفريقا وخاصة ليبيا، المنقسمة والمدمرة، مسؤولية منع وصول المهاجرين إلى البحر، وإعادتهم أحياء أو اموات إلى البر.. بمجملها هي حلول تلفيقية فاشلة، تتهرب من المسؤولية الأخلاقية والسياسية والاقتصادية في تفجير هذه المأساة.