“الكتلة التاريخية” هل تصلح فلسطينيا وبأي معنى؟ .. عصام يونس
تناول المفكر الايطالي أنطونيو جرامشي مفهوم “الكتلة التاريخية” في سياق جهد معرفي وسياسي عميق الدلالات للحالة الايطالية شديدة التباين هادفا من جهة إلى الحفاظ على وحدة الأمة الإيطالية (شمالها الأكثر تطورا وجنوبها الأبطأ تحولا) ومن جهة ثانية التأسيس لنهضة شاملة، بحيث تضم كل مكونات المجتمع من ماركسيين وليبراليين إلى الكنيسة وما بينهما.
وعربيا كان لإسهامات المفكر المغربي محمد عابد الجابري في محاولتة تبيئة المفهوم في الحالة العربية تأثير معرفي هام في محاولة الإجابة على سؤال التعثر في التحرر من شروط التبعية والإلحاق ومن ثم الاستبداد وتحقيق الاستقلال الناجز. يعرف العابدي الكتلة التاريخية بأنها “كتلة تجمع فئات عريضة من المجتمع حول أهداف واضحة تتعلق أولا بالتحرر من هيمنة الاستعمار والإمبريالية، السياسية والاقتصادية والفكرية، وتتعلق ثانـياً بإقامة علاقات اجتماعية متوازنة يحكمها، إلى درجة كبيرة، التوزيع العادل للثروة في إطار مجهود متواصل للإنتاج. وبما أن مشكلة التنمية مرتبطة في الوطن العربي بقضية الوحدة، فإن هذه الكتلة التاريخية يجب أن تأخذ بعداً قوميا في جميع تنظيراتها وبرامجها ونضالاتها”.
إن “الكتلة التاريخية” في الحالة الفلسطينية، بالغة الاستثنائية، قد تشكل مدخلاً ليس فقط معرفياً بل وأظن أنها قد تؤسس لفعل سياسي اجتماعي بفعل الحالة المتقدمة الواجبة من التوافق، على أسس جديدة، بين مختلف الفاعلين السياسيين والاجتماعيين بهدف صيانة المشروع الوطني وإنجازه.
إن التوافق كتبسيط وتلخيص لمفهوم الكتلة التاريخية يتضمن البحث عن المشترك وتظهيره. ونقطة البدء للتوافق الجمعي هو التوافق الداخلي لكل من مكونات المجتمع وأولها الأحزب السياسية ذات المرجعيات المختلفة وذلك يقتضي تنحية الايديولوجيا، بما تعني امتلاك الحقيقة المطلقة، فلاتوافق مع العام إلا بتوافق الخاص، ولا إصلاح في العام إلا بإصلاح الخاص. إن الكتلة التاريخية بهذا المعني هي التوافق الذي يضمن التنوع والاختلاف في اطار الوحدة، فهي ما سوف يشكل الإطار الجامع لمختلف مكونات المجتمع السياسية والدينية والاجتماعية والثقافية.
يثير الانكشاف الخطير الذي يعاني منه الفلسطينيون والتشظية التي يعاني منها نظامهم السياسي من جهة، وتعثر إنجاز متطلبات المشروع الوطني من جهة ثانية، سؤالا تأسيسياً: لماذا وصل الفلسطينيون إلى ما وصلوا اليه؟ ولماذا أصبحوا أبعد ما يكونون عن إنجاز مشروعهم الوطني؟ بل ولماذا هذا التهديد الخطير بتفتييت وحدة هويتهم الوطنية الجامعة وتشظيتهم كشعب وتحولهم إلى جماعات منتشرة في بقاع الأرض تعيش همها وظروفها الخاصة وتبحث في حلولها كجماعة لا كشعب؟
الأسباب كثيرة ولست في وارد الإجابة عنها ولكن سأكتفي بالاقتراب من الذاتي ولو قليلاً، إذ كيف يمكن لمجتمع يتعرض لأقسى وأبغض أشكال الاستعمار الكولونيالي الإحلالي أن يخوض معركته دون التوافق الاستراتيجي البنيوي بين مختلف فاعليه، لا ذلك المرحلي والاستخدامي والنفعي؟ وكيف يمكن له إنجاز مشروعه الوطني وتحقيق الكفاءة الوطنية والاجتماعية والسياسية دون الزج بمختلف مكوناته المختلفة-المتوافقة في أتون الصراع؟ وكيف يمكن له خلق قبة الصد الحديدية لاختراقات محتملة إقليمية ودولية دون إنجاز الكتلة التاريخية الوطنية بمعناها التوافقي، أو ما يمكن وصفه مجازاً بإعادة صياغة عقد اجتماعي جديد ما قبل الدولة وفي سياق النضال للوصول إليها، ذلك كله يبدأ بسؤال الاستقراء: من نحن؟ ماذا نريد؟ كيف نريد ما نريد؟
تشير التجربة الإسبانية التي قد كتبت عنها سابقاً، إلى أن الانتقال نحو الديمقراطية بعد 37 عاماً من حكم الدكتاتور فرانكو لم يكن عملاً سهلاً بل عادةً ما كان محفوفاً بالمخاطر ويمكن القول أن التوافق بين مختلف الأحزاب والقوى السياسية، (حزب الشعب وهو امتداد لحكم فرانكو والحزب الشيوعي وهو العمود الفقري للمعارضة الاسبانية والكنيسة والنقابات…الخ) لم يكن له أن يتحقق، من بين أسباب أخرى، لولا عملية المراجعات الداخلية التي قامت بها تلك القوى والأحزاب، وهي عملية ليست بالهينة، نتج عنها تنحية الايديولوجيا والقيام بعملية إصلاح بنيوية شاملة في تلك الأحزاب.
تلك الحقيقة هي ما مكن الفرقاء من التخلص من مكامن القلق كل عند الآخر وذلك بالتسليم برفض الانقلاب والثورة من جهة وبعدم العودة للماضي المستبد من جهة أخرى، فالحزب الشيوعي الإسباني أسقط ما كان مدافعاً عنه ومتبنياً له كعقيدة وأقصد “ديكتاتورية البروليتاريا”، ليصبح جزءاً من الشيوعية الأوروبية التي تحتكم إلى صندوق الانتخابات للوصول إلى السلطة وتداولها وإلى الدستور الناظم لحياة المجتمع والذي يحدد شكل النظام السياسي ومؤسساته. وبالمقابل أجرى حزب الشعب والنظام السياسي نفسه مراجعة شاملة أعلنت القطيعة مع حكم فرانكو نظرية وممارسة، عقيدة وأداوت، وبالتالي قبول مبدأ التعددية والوصول السلمي للسلطة والوفاء بمتطلبات إصلاح النظام وتحييد الجيش وعودته إلى ثكناته. ذلك كله وغيره كان دافعه هو وحدة الأمة الاسبانية وتوفير أسباب نهضتها وإعادة موضعتها في محيطها الأوربي.
إن عدم إنجاز المشروع الوطني والتفتيت الذي يشهده النظام السياسي الفلسطيني والتعثر في إنهاء الانقسام وتحقيق المصالحة، يدفعنا إلى مقاربة التجربة الاسبانية للانتقال نحو الديمقراطية، كتجربة جديرة بالتأمل، لنستخلص دروساً أراها واجبة لإعمال العقل في ممكنات “الكتلة التاريخية” في نسختها الفلسطينية ولو كان على المستوى المعرفي والتأسيسي.
إن مفهوم “الكتلة التاريخية” مفهوم دينامي، ليس بذاته بل لذاته، يمكن له إذا ما جرى النظر إلى جوهره في الحالة الاسثنائية الفلسطينية أن يشكل الاطار الجامع للأمة، الجماعة الوطنية، في توافقها وسعيها نحو تحقيق أهدافها الوطنية الكبرى.
في الاقتراب من مفهوم “الكتلة التاريخية” كمفهوم كلي، وجب منهجيا ربطه بجزئيات قد تشكل استقراءً ضرورياً وكاشفا، في الحالة الفلسطينية، ومن بين أهمها ذلك المتعلق بالانقسام القائم وبتعثر المصالحة.
إن توفر الإرادة السياسية بين الفرقاء لتحقيق المصالحة هو شرط ضروري ولكنه غير كاف، بالنظر إلى وجود عوامل أخرى ذات تأثير هائل على قدرة الأطراف من الاقتراب من المصالحة، ومن بينها التداخل الشديد، تاريخياً، في الفعل السياسي الفلسطيني مع ما هو خارجه دوليا واقليمياً، وداخلياً ماهو مرتبط بمفاعيل عامل الزمن، بالنظر إلى أن مفهوم الانقسام بالغ الدينامية وشديد التكيف، ويعيد إنتاج نفسه بحقائق جديدة يبدو أنها بلا رجعة تدفعنا للقول بأننا أمام مشهد اكتمال نظامين سياسيين أحدهما في غزة والآخر في الضفة. والسؤال التبسيطي، هل تقبل دولة الاحتلال بتحقيق المصالحة أو أن تتساهل معها إذا حاول الطرفان الاقتراب كل من الآخر وهي التي تسعي إلى مد انقسامهم بعناصر قوة جديدة تزيد من وطأته وتأثيراته الكارثية. هدفت دولة الإحتلال من وراء قرارها الإستراتيجي بالإنفصال عن القطاع في العام 2005، من بين ما هدفت إليه، إلى تفتيت وحدة الأراضي الفلسطينية وتعظيم شقة الخلاف في النظام السياسي، وأجزم قاطعاً، بأنها انفصلت عن غزة ليس بغرض السماح بعودتها يوماً إلى وحدتها السياسية الطبيعية مع باقي الأراضي لفلسطينية وذلك للقضاء على أي ممكنات للدولة الفلسطينية الموعودة في الممارسة وحتى كفكرة في وعي الفلسطينيين.
إن التسليم بذلك يؤسس عندئذ لنتيجة مفادها أن إنهاء الانقسام يجب ان يكون جزء من العملية الكفاحية التي يجب أن يخوضها الشعب الفلسطيني، شأنها في ذلك شأن مقاومة الاستيطان وتهويد القدس، وما الإقتراب من المصالحة عندئذ إلا تحقيقا لإنتصار ولو بالنقاط على المشروع الصهيوني.
كما أن غياب الثقة بين الفرقاء كان ولازال سبباً ونتيجة في حصاد الآثام، فمن فاز بالانتخابات، ومن رفض التعامل مع نتائجها، مطالبون بتفكيك تلك الأزمة وهو ما يعني أن التاريخ لم يبدأ مع الانتخابات ولم ينته عندها.
حالة التشكك حاضرة وبقوة، فحركة حماس التي قبلت بقواعد اللعبة ودخلت إلى حظيرة النظام الرسمية بقبولها المشاركة في الانتخابات، وهي متهمة ابتداء من قبل خصومها، حتى قبل أن تختبر في الحكم بأنها تسعى إلى فرض أيديولوجيتها، لاسيما أجندتها الإجتماعية على المجتمع، وجب عليها القيام بإجراءات محددة وبإرسال رسائل واضحة، نظرية وممارسة، وليست فقط الاكتفاء برسائل تطمينية، بأن الوصول للحكم من خلال العملية الدبمقراطية لن يشكل رصة للانقلاب عليها، وعلى أسس النظام وقواعده المستقرة. إن ذلك التخوف وإن كان افتراضياً، فإنه يجد صداه أحيانا، في محاولات أسلمة المجتمع وفرض أنماط سلوكية محددة على السكان، كما ويجد ذلك التخوف نفسه في شيزوفرينيا التصريحات التي تصدر، حيث تطمينات تؤكد على عدم المساس بأي من ذلك، وأخرى تؤكد المشروعية في تأسيس نظام جديد من سلوك وقوانين وممارسة أو من خلال عملية تبدو منظمة للتغيير التدريجي للمجتمع دون الإفصاح عن ذلك. هذا بالإضافة إلى ما يجري توظيفه من قبل الخصوم السياسيين بادعاء أن رغبة حركة حماس في البقاء في الحكم مع استحضار مظلوميتها، قد يجعل من قبولها في الانتخابات مسألة تكتيكية، وهو ربما ما قد يجد فيه خصومها تفسيراً لرفضها قبول تحديد موعد الانتخابات بثلاثة شهور.
وحالة التشكك قائمة في فريق السلطة والذي وإن سهل مشاركة حماس في الانتخابات، ظنّاً منه أن نتائحها سوف تكن على مقاسه، قد رفض عملياً قبول نتائجها وهي التي حققت فيها أغلبية واضحة، ولعبت دورا لا ينكر في عزلها وزيادة الضغط عليها وعلى القطاع وسكانه الأمر الذي لازال قائما حتى اليوم. والسؤال المشروع الذي طالما رددته حركة حماس، هل يمكن بعد هذه التجربة المأساوية أن يقبل الفريق الآخر إجراء أي انتخابات قد يتكرر مشهد نتائجها؟ وهل سوف تتعرض الحركة إلى نفس الشروط الظالمة والمجحفة التي وجدت نفسها فيها بعد انتخابات 2006 فيما لو حصدت الأغلبية مرة أخرى؟ ثم ذلك الإصرار على إجراء الانتخابات في موعد محدد، أراد له فريق السلطة أن يكون ثلاثة شهور؟ إن تحديد موعد الانتخابات وإن بدا قراراً فلسطينياً، فإنه أبعد ما يكون عن ذلك، حيث أن هناك أطرافاً عدة قد تجعل من إجرائها مستحيلا مالم تعطي ضوئها الأخضر، فهل تم ضمان إجراؤها في القدس ليتم تحديد موعدها؟ إلى غير ذلك من الأسئلة.
إن القضية هي أبعد من تبيسطها في نتائج انتحابات أو في عطب نظام، بل هي في جوهر الفعل الوطني والكفاحي، السياسي والاجتماعي والثقافي، في الاطار الوطني الجامع الذي يؤسس لشراكة حقيقية تاريخية تؤسس اقتراباً مع العقد الاجتماعي ولكن في سياق استثنائي له علاقة بعملية التحرر والانعتاق، وينشيء منظومة بنائه الفوقي السياسي والثقافي والأخلاقي ودون ذلك فإنه سوف يعاد إنتاج التجارب البائسة بشكل مأساوى في تباعد خطير عن متطلبات إنجاز المشروع الوطني.
إن “الكتلة التاريخية” وفي محاولة تبيئتها وتأصيلها فلسطينياً قد تشكل، في ظني، تأسيساً مختلفا لإعادة صياغة فكرة “الوحدة الوطنية”، تلك الفكرة الحالمة في الوعي الشعبي، وهي التي لطالما خضعت للتوظيف النفعي والاستخدامي، نحو فكرة الاطار الجامع لمختلف مكونات الأمة في إطار موحد لا يلغي الخصوصية وإن أنكر على الجميع حقيقته المطلقة. إن هذا الإطار ليس إطارا شكلانيا لتقاسم الخيرات او الخيبات، بل هو الاطار الذي يوحد الفلسطينيين في توافق لا انقلاب عليه، يعيد تجديد الهوية الوطنية الأصيلة ويعيد الاعتبار للمشروع الوطني ويدفع بكافة مكونات المجتمع الفلسطيني، على أرضه وفي شتاته، في اتون النضال لتحقيق ذلك. وللحديث بقية واجبة.