مقالات

العمليـات الفرديـة المقاومـة بين الأسباب والدلالات…أبو علي حسن

   

 

 إن الحديث عن العمليات الفردية ضد جنود ومستوطني الاحتلال الصهيوني لا يمكن أن يحمل منطقهُ الطبيعي أو موضوعيته بدون الحديث عن المقاومة ومفهومها الوطني ومنطلقاتها وغاياتها…فلا عمل فردي مقاوم خارج دائرة فعل المقاومة…بل هو في صميمها ما دام يملك الدافع الوطني وعليه فإن العمليات الفردية ضد الاحتلال ليست إلا شكلاً آخر من أشكال المقاومة الوطنية المشروعة يمارسها أفراد أو مجموعات تنتمي أولاً إلى فصائل ترفض الاحتلال وكل مظاهره ومفاعيله اليومية…وإذا كانت المقاومة  بالفقه السياسي هي مشروع أو فكرة ثورية تتأسس من خلال حركات تحرر أو قوى سياسية ثورية…فإنها في الواقع حاجة موضوعية ووطنية وشعبية غير مرتبطة بالمطلق بالقوى أو المنظمات أو الإطارات السياسية…لكنها تتجلى وتتمظهر بأفضل ترجماتها ومعانيها ودلالاتها في إطار الفعل المنظم والممنهج في مواجهة واقع موضوعي هو الاحتلال.

    ومن هنا فإن النشاط الفردي المقاوم لايمكن إخراجه أو فصله عن سياقه الموضوعي لفعل المقاومة كما لو أنه ظاهرة مناقضة للفعل المنظم او انه فعل ارتقائي نوعي مما يؤدي إلى تقديسه أو الإعلاء من شأنه في مقابل ضُعف العمل المنظم..بل هو سلوك وطني محرض للفعل المنظم وسلوك وطني غريزي تحركه مشاعر الغضب والأحاسيس الوطنية…ومظاهر الاحتلال اليومية…وعلى هذا الأساس فهو رد فعل فردي مقاوم يبلغ مستوى الثأر والانتقام يستوجب العمل على تسييسه ووضعه في الإطار الوطني والسياسي وليس الثأري…وأي موقف بإدانته أو التقليل من شأنه هو موقف يدين المقاومة المشروعة ويدين الشعب الفلسطيني…بل موقف يدعو الى الاستكانه والرضا مع الاحتلال.

 ويبقي السؤال ماثلاً…ما هي الأسباب والدوافع وراء الأعمال الفردية…؟

   لا بد من الإقرار بأن العمليات الفردية ضد الاحتلال في الفترة الأخيرة في فلسطين ليست ظاهرة تستدعي التنظير لها واعتبارها مستوى إرتقائي للمقاومة…إنما هي مجموعة من أعمال فردية هنا أو هناك تحتاج إلى إدراك أسبابها ودلالاتها الفلسطينية  “والاسرائيلية”.

أولاً: إن انقشاع الوهم وانسداد الأفق السياسي لكل الحلول السياسية التي نظّر لها على مدار أكثر من عشرين عاماً منذ أوسلو وحتى اليوم قد شكّلا رأياً عاماً فلسطينياً بانتهاء فرص الحل السياسي أو ما سمي “بحل الدولتين” بل خلقا وعياً فلسطينياً عاماً بأن خيارات التفاوض لم تعد تجدي نفعاً بقدر ما خلقت ضرراً متزايداً على مستقبل المشروع الوطني برمّته…وهنا قد يتأسس وعياً أو فكراً استرجاعياً لمفهوم المقاومة أو محاولة العودة الى الجذور وإطلاق خيارات أخرى في النضال والمقاومة…تبدأ من أول السطر أي الأعمال الفردية…

ثانياً: إن مظاهر الاحتلال الهمجية والنازية التي تمثلت في القتل والحرق والملاحقة والاعتقال وتقييد الحركة وزج المناضلين في السجون…وإقامة المستوطنات ومصادرة الأراضي والاعتداء على المقدسات وتهجير السكان وسلب كل مقومات الحياة الطبيعية والإنسانية…كل هذه المظاهر الاحتلالية المرافقة لانسداد الأفق السياسي لأي حل سياسي قد شكلت إحساساً وطنياً يستدعي المقاومة والانتقام والسن بالسن والبادي أظلم عند المواطن الفلسطيني الذي يكتوي يومياً بنار الاحتلال.

ثالثاً: إن العمليات المقاومة الفردية هي استجابة لواقع اجتماعي موضوعي “حالة الفراغ” حيث أن غياب الفعل المقاوم المنظم ضد الاحتلال من قبل فصائل العمل الوطني رداً على انسداد الأفق السياسي ورداً على مظاهر الاحتلال المتزايدة من قتل وحصار واعتقال…شكّل إحباطاً ملموساً عند الشباب الفلسطيني المتحمس والمندفع…والهائم على وجهه بسبب غياب فرص العمل والبطالة والتضييق الممارس على حياته وعمله…وهنا بدأت العمليات الفردية كما لو انها استجابة لتحدي لمن يملك العمل المنظم واستجابة لواقع موضوعي لم تستطع الفصائل أن تملأ فراغه…أي أنها انعكاس لفراغ كفاحي لا بد من ملئه بالفعل المقاوم الفردي..

رابعاً: ما من شك بأن العمليات الفردية هي بالجوهر إرادة تحدي لحالة التنسيق الأمني بين أجهزة السلطة الفلسطينية وأجهزة الاحتلال…وهي إصبع اتهام لأجهزة السلطة بأنها متواطئة مع الاحتلال…وبالقدر نفسه لا يمكن تكثيف الأسباب الموضوعية والذاتية وراء الأعمال الفردية المقاومة في عامل التنسيق الأمني فحسب…فالجانب المحفّز والأهم هو حضور الاحتلال اليومي أمام المواطن الفلسطيني…وما التنسيق الأمني إلا محفّز آخر ومضاف لهذه الأعمال الفردية…فالأعمال الفردية هي عمل وطني بامتياز يتجاوز ويرفض التنسيق الأمني ويتحداه…وليست ردات فعل فقط على التنسيق الأمني.

خامساً: لا يمكن أن نعزل الأعمال الفردية المقاومة عن واقع البيئة السياسية والاقتصادية التي يعيش في داخلها المواطن الفلسطيني…والتي تتمثل في حالة الانقسام الجغرافية والسياسية والفصائلية من جهة والتي ساهمت في حالة الإحباط واليأس من القيادة الفلسطينية…ومن جهة أخرى الواقع الاقتصادي والمعيشي الذي ترك آثاره وظلاله على كل مواطن فلسطيني جراء عدم قدرة السلطة الفلسطينية على بناء تنمية اقتصادية في ظل الاحتلال…يحمي المواطن من الارتهان لهذا الاحتلال…وجراء اعتماد السلطة الفلسطينية على المنح والهبات المالية المشروطة…أو اعتمادها على إرادة ورغبة الجانب الاسرائيلي في الإفراج عن الأموال المحتجزة لديه من أموال الشعب الفلسطيني…

   هذه البيئة السياسية والاقتصادية وتفاصيلها اليومية تركت أثراً من فقدان الثقة واليأس من حال السلطة الفلسطينية…ونزوعاً نحو الأعمال الفردية لاستعادة الثقة في الذات الوطنية أمام القيادة الفلسطينية التي لم تستطيع أن ترفع من شأن هذه الذات بقدر ما أنزلتها من عليائها…

    وإذا جاز لنا أن نذكر الأسباب الدافعة لهذه الأعمال المقاومة الفردية…فإن المنطق أيضاً يستوجب أن نظهر الدلالات والمعاني والآثار لهذه الأعمال على الصعيد الفلسطيني أو على الجانب “الاسرائيلي”…

    فعلى الصعيد الفلسطيني فإن هذه العمليات ستضع القيادة الفلسطينية أمام إحراج حقيقي بوجه الشعب الفلسطيني وستضع الفصائل الفلسطينية أمام قفص الاتهام بالتقاعس أو العجز أو التماهي مع السلطة الفلسطينية وسياساتها…الأمر الذي قد خلق وضعاً معنوياً وسياسياً ضاغطاً على هذه الفصائل من كادراتها وأعضائها وتياراتها لجهة تغيير سياساتها والارتفاع في مستوى الموقف السياسي والعمل الميداني المقاوم…وأما على المستوى الشعبي فإن هذه العمليات ستخلق حالة شعبية مناصرة ومؤيدة وداعمة لأي عمل مقاوم ضد الاحتلال…مما يعيد الحالة المعنوية المفقودة مؤقتأ لدى الحالة الجماهيرية ويرفع من منسوب الحماس الشعبي الذي يؤسس الى هبّات شعبية أو انتفاضة قادمة وإلى نزعات فردية تالية تقلّد سابقتها من أعمال مقاومة…وهنا يستعيد الشعب الفلسطيني قدراً ما من ثقته في قدراته وطاقاته الوطنية…

   بيد أن هذه العمليات المقاومة قد أحدثت قلقاً ورعباً في الحالة الشعبية “الاسرائيلية”…فقد خلخلت الجهاز المعنوي لكثير من الاسرائيليين والمستوطنين وكثير من القيادة “الاسرائيلية”…حيث أصاب الرعب والهلع كل “اسرائيلي” أينما يقيم أو يسير أو يعمل او يركب…وأضحى الرعب والهلع كابوس يضج مضاجع “الاسرائيليين” أينما كانوا…كما أن هذه العمليات قد أعطت رسائل قوية للمستوطنين و “الاسرائيليين” بأن لكل فعل رد فعل…الأمر الذي يعني أن التمادي في القتل يعني تطوير المقاومة بكل الأسلحة الممكنة…

   إن ممارسة اشكال المقاومة تفرضها الظروف المحيطة…بيد أن المقاومة الفلسطينية هي بين الخيار والقدر…لإن المقاومة ظاهرة تاريخية مرافقة لمظاهر الاحتلال والفقر والظلم والاستبداد والقهر أينما وجد…والمقاومة هي أشد وضوحاً حينما تواجه الغزو والاحتلال…ومتى كان هناك احتلال تتجلى المقاومة في بيئتها ومحكومة بواقعها…سرية او علنية…فردية أو منظمة..جزئية أو شاملة..نخبوبة أو شعبية…سلمية أو مسلحة…وعليه فالمقاومة لا تقوم بفعلها كظاهرة مستقلة وفق أجندة بعينها او بدعة سياسية تستولدها قوى سياسية بعينها…بل هي قدر يولد كرد فعل على حالة موضوعية يتجلى فيها الظلم والقهر والاستبداد والاحتلال…

   ومن هنا  فإن الشعب  الفلسطيني يواجه قدره بالمقاومة بكل أشكالها وبكل إبداعاتها البدائية والنوعية ولن تتوقف طاقاته المقاومة…فهناك شلال يتدفق ما دام هناك احتلال جاثم.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى