الطبقة العاملة الأردنية والتحول من طبقة بذاتها إلى طبقة لِذاتها
في كل عام تحتفل القوى السياسية والنقابية بعيد العمال، عبر مهرجانات ومسيرات تمجّد الطبقة العاملة ودورها في مرحلة التغيير الديمقراطي. وفي خضم هذه الاحتفالات يتناسى الكثيرون السؤال الأهم: هل الطبقة العاملة تعي دورها وتعمل لتكريسه؟! هل الطبقة العاملة في الأردن انتقلت من مرحلة الطبقة بذاتها إلى مرحلة الطبقة لِذاتها؟! وكيف يمكن استنهاض الطبقة العاملة لتقوم بدورها؟
أسئلة طرحتها نداء الوطن على نخبة من المختصين: الدكتور هشام غصيب المفكر الماركسي وأستاذ العلوم الطبيعية في جامعة الأميرة سمية، والدكتور منير حمارنة الأمين العام السابق للحزب الشيوعي الأردني وأستاذ الاقتصاد في الجامعة الأردنية سابقاً، والأستاذ خالد سعيد الناشط النقابي العمالي وعضو اتحاد النقابات العمالية المستقلة، والرفيق فايز الشريف عضو المكتب السياسي لحزب الوحدة الشعبية ومسؤول التثقيف في الحزب.
المفكر الماركسي والدكتور هشام غصيب: الطبقة في ذاتها، والطبقة لذاتها. مفهومان أساسيان يقعان في صلب الماركسية. والسؤال الجوهري هنا هو: كيف نستدل على الطبقة في ذاتها والطبقة لذاتها؟ إننا نستدل على الأولى بموقع الطبقة في عملية الإنتاج وعلائق الإنتاج وبدلالة مفهوم الاستغلال. إلى أي مدى تكدح الطبقة من أجل ذاتها وذريتها، وإلى أي مدى تكدح من أجل غيرها؟ وبهذا المعنى، فإن نسبة عالية من الأردنيين يندرجون ضمن إطار الطبقة العاملة، بما في ذلك الموظفون والجنود والمعلمون وأساتذة الجامعات.
ولكن، هل تشكل الطبقة العاملة الأردنية طبقة متجانسة؟ بالتأكيد لا. فمع أن الاستغلال يجمع مكوناتها، إلا أن هذه المكونات تتباين كثيراً مع بعضها بعضاً من حيث درجة الاستغلال وطبيعة عملها وعلائقها ببعضها بعضاً وبغيرها وعلائقها بالدولة السياسية وبالمجتمعات المحيطة وتاريخ تكونها. إنها جميعاً تشترك معاً في أنها مستغلة، أي في كون عملها تحت رحمة الفئات البرجوازية ويسلب منها. لكن نقاط التباين بينها المذكورة أعلاه، تجعل الطبقة العاملة الأردنية لا متجانسة بصورة كبيرة، الأمر الذي يعوق إدراكها وضعها الاستغلالي ويلحق مكوناتها بشرائح البرجوازية المحلية والإقليمية والعالمية.
وبالنظر إلى ذلك كله، فليس مستغرباً أن نقول إن الطبقة العاملة الأردنية لما ترتق إلى مستوى الطبقة لذاتها. صحيح أن هناك نقابات عمالية وأحزاباً عمالية أردنية، وهي المؤشر الرئيسي على ارتقاء الطبقة إلى مستوى الطبقة لذاتها، إلا أن هذه النقابات والأحزاب تكاد أن تكون شكلية. وهي، على أي حال، ضعيفة وأثرها على جماهير الطبقة العاملة، كما وصفتها أعلاه، ضعيف، مقارنة بالأحزاب اليمينة والدينية والأجهزة الأمنية. وهي لم تنبثق أصلاً من التنظيم الذاتي للجماهير الكادحة. فالطبقة لذاتها تعلن عن وضعها عبر تشكيل ذاتها في نقابات وأحزاب وهيئات ولجان ومجالس ليست مفروضة عليها من الخارج. وبالطبع، لا نستطيع أن ننكر أن الأردن شهد في السنوات الست الأخيرة حراكاً وموجة من الإضرابات والاعتصامات والمطالبة بمزيد من النقابات، وخصوصاً في ضوء الأزمة الاقتصادية المتصاعدة وإملاءات صندوق النقد الدولي، إلا أن هذه الموجة تراجعت كثيراً في الآونة الأخيرة، وأفلحت التيارات اليمينية في استغلالها والسيطرة عليها.
ما الحل إذن؟ ما العمل؟ هذا ما أدعو القوى النقابية والتقدمية إلى عقد ورشات جدية لمناقشته والحوار بشأنه.
الرفيق الدكتور منير حمارنة الأمين العام السابق للحزب الشيوعي الأردني: كبرت الطبقة العاملة الأردنية بوضوح خلال السنوات الأخيرة، وإن كان توسعها الأكبر في قطاع الخدمات، وذلك ارتباطاً بطبيعة التطور القطاعي في الاقتصاد الوطني. وشهدنا في السنوات الأخيرة نضالات مطلبية للعمال في مواقع مختلفة تطورت. وكانت معظم نضالات الطبقة العاملة تتعلق بقضايا مطلبية أو دفاعاً عن حق العمال في التنظيم النقابي وغير ذلك.
وحقق النضال المطلبي للعمال نتائج إيجابية في كثير من الحالات. وكانت السمة المميزة هي صمود غالبية العمال ووحدتهم في التحركات المطلبية، الأمر الذي فرض الاستجابة إلى مطالبهم بشكل كلي أو جزئي.
والأمر الأبرز والأهم هو غياب الطبقة العاملة عن الحراك السياسي الذي عاشته البلاد على امتداد ما يقرب من أربعة أعوام. صحيح أن العمال كانوا يشتركون بالحراك الشعبي كأفراد، ولكن السمة الهامة هي الغياب السياسي للطبقة العاملة ومنظماتها، والتعبير المباشر إزاء ما يجري في البلاد وفي المنطقة، مما يؤكد أن الطبقة العاملة لم تكن تظهر كطبقة بحد ذاتها، ولم تكن تؤثر في الأحداث السياسية، الأمر الذي دفع العديد من السياسيين والمثقفين إلى الاعتقاد بأن دور الطبقة العاملة قد اختفى نهائياً إزاء الشأن العام السياسي في البلاد، وأنه رغم اتساع عددها فإن نفوذها آخذ في الاضمحلال.
إن السبب فيما وصلت اليه الطبقة العاملة من ضعف في التأثير يكمن، أولاً في أن التنظيم النقابي العمالي لا يمثل المصالح السياسية للطبقة العاملة وللمجتمع بشكل عام، وهذا ما يكرس غياب دور الطبقة العاملة في الحياة السياسية. وثانياً، يكمن في الضعف الكبير في دور الأحزاب السياسية التي تمثل مصالح الطبقة العاملة، لأن هذه الأحزاب عانت على مدى سنوات طويلة من الكبت والإرهاب، خاصة في ظل الأحكام العرفية. ولكن ما زالت هذه الأحزاب تعاني من التضييق السياسي بوسائل وأشكال متعددة، علماً أن حالة تزوير التمثيل النقابي للعمال يساهم بقوة في تغييب دور الطبقة العاملة وفي تغييب دور الأحزاب السياسية في تبني مطالب الطبقة العاملة والدفاع عن مصالحها.
فتأمين التعبير الحقيقي، سياسياً واجتماعياً، عن دور الطبقة العاملة وقيادتها للتحولات الضرورية في البلاد يرتبط بتعميق الوعي في صفوفها لمصالحها الاقتصادية والسياسية على السواء وهذا يصعب تحقيقه دون، أولاً: وجود التنظيمات السياسية التي تدافع عن مصالح الطبقة العاملة وتتبنى قضية إشاعة الوعي في صفوفها. ولذلك يلاحظ في بلادنا أن معدل النمو العددي للطبقة العاملة أكبر بوضوح من معدل نمو الوعي العام في صفوف الطبقة العاملة.
الناشط النقابي العمالي الأستاذ خالد سعيد:
قضية الطبقة العاملة الأردنية ووعيها لذاتها هي قضية اليسار الأردني عموماً ووعيه لذاته، إذ أعتقد أن جزءاً مهماً من المشكلة وحالة الضعف التي تعيشها الحركة العمالية الأردنية في بلادنا، وربما في كل البلدان النامية، وتلك التي فُرض عليها التخلف، تكمن في كيفية تفسيرنا لمفهوم الذات النضالية، إذ نجد أغلب الأحزاب اليسارية تسعى وترعى وتهتم لإكمال وعي الذات للعمال كطبقة واحدة ووعي ظروفها وشروط خروجها من أزمتها الراهنة والمستقبلية، في حين هي ذاتها كأحزاب لم تستطيع أن تفهم قواسمها المشتركة وتعي جوهر مرجعها النظري العلمي الواحد، لتوحد ذاتها وعلى الأقل في جبهة يسارية واحدة تمكّنها أولاً من إقناع العمال بقيم الوحدة ومعنى يا عمال الأردن اتحدوا ولا نقول العالم، من أجل صياغة قوة ملموسة في الشارع الأردني لتقترب من تحقيق أهدافها.
هنالك ضعف وتشتت متواصل في عموم الحركة العمالية الأردنية والعربية عموماً، ولأسباب موضوعية أولاً، يفرضها ضعف بُنى المؤسسات الاقتصادية، وعدم وجود منشآت ضخمة تجمع الأعداد الكبيرة من العمال ليسهل توحيد مطالبهم.
ومن جهة ثانية، ولفهم أسباب حالة الضعف للحركة العمالية علينا ألا ننسى الخلل الذاتي في تراجع دور الأحزاب اليسارية في هذا الإطار، حيث يندر وجود أعداد حقيقة من العمال في بُنية تلك الأحزاب لتبقى الإطارات الحزبية المشتغلة في المسألة العمالية ضعيفة وصلاتها مع العمال كذلك، ولا ترقى أنشطتها إلى أكثر من الأنشطة المناسباتية والأعياد العمالية السنوية. وستبقى المعادلة الحقيقية والمعلنة، بدون أحزاب يسارية قوية متكاتفة لن تكون هناك حركة عمالية واعية لذاتها، وتعمل لذتها.
ولا بد من التأكيد مرة أخرى على أن وعي العمال لذاتهم، مرهون بتخفيض أثر رومانسية الشعار المستحيل مستقبلياً (ديكتاتورية البروليتاريا) الذي ما زالت أحزاب اليسار العربية والأردنية تتغنى به وتنثره في سماء الحلم العمالي العربي.
بقدر وعي العمال لموقعهم الأساسي والحقيقي والواقعي في علاقة ومعادلة إنتاج فائض القيمة ومراكمة رأس المال إثر ذلك، بقدر ما تتعزز لديهم القناعة وحق المطالبة والتمثيل عبر نقاباتهم وأحزابهم للمشاركة الديمقراطية الناضجة في صناعة القرار في المجتمع الأردني، وبدون غلو ورومانسية، سيسهل استيعابهم لذاتهم ويوضح المطالب والأدوار الممكنة في سياق نضالاتهم النقابية والسياسية، والتي يجوز لها أن تفرض المشاركة الحقيقية في إيجاد البدائل التقدمية لشتى جوانب الحياة، والحق في الحياة المشرفة.
فايز الشريف عضو المكتب السياسي لحزب الوحدة الشعبية ومسؤول التثقيف في الحزب:
الطبقة العاملة الأردنية في ذاتها هي نفسها الطبقة العاملة المحددة تاريخياً وفق علاقتها بالإنتاج الاجتماعي بشكل عام، وبوسائل الإنتاج بشكل خاص، أي بمعنى آخر هي ذاتها التي لا تملك شيئا من وسائل الإنتاج، وتبيع قوة عملها التي تملكها لصاحب العمل، ذلك الذي يملك وسائل الإنتاج ويملك ثمار وناتج العمل. أما حين تتحول الطبقة العاملة الأردنية الى طبقة لذاتها يعني أن نضيف إلى هذه الطبقة وعياً اجتماعياً يؤهلها لكي تقوم بالدور المرشحة له والذي يشكل رسالة تاريخية لها، وهو قيامها بقيادة النضال الوطني الديمقراطي التحرريّ بآفاقه الاشتراكية تمهيداً لبناء مجتمع ينهي كل عذابات القهر والذل والاستعباد، ويجهز على كافة صنوف استغلال الإنسان لأخيه الإنسان.
ولكن كيف تكتسب الطبقة العاملة هذا الوعي لذاتها ولرسالتها التاريخية؟
لقد ناقش مؤسسو المادية الجدلية التاريخية هذه المسائل باستفاضة وخاصة لينين في كتابه “ما العمل” حيث ذكر أن “الوعي السياسي الطبقي لا يمكن حمله إلى العامل إلا من الخارج، أي من خارج النضال الاقتصادي، من خارج دائرة العلاقات بين العمال وأصحاب العمل.
هذا هو الإطار النظري العام إذا أردنا الإجابة على السؤال الأول. ولكننا عندما ننتقل للشروط اللازمة لتحول الطبقة العاملة الأردنية من طبقة بذاتها إلى طبقة تعي دورها ورسالتها التاريخية المتمثل في قيادة المجتمع إلى عملية تغيير وطني ديمقراطي بأفق اشتراكي ينهي كافة صنوف وأشكال القهر والاستغلال، فإن شروط ذلك تتحدد بالنقاط التالية علماً بأن المرحلة النضالية التي تمر بها الطبقة العاملة الأردنية، وكذلك طبيعة تكوينها، وتعدد فئاتها، وأكاديمية جزء كبير من عناصرها، وتعدد ممثليها، يضعنا أمام خصوصية محددة لا بد من أخذها بعين الاعتبار.
الشرط الأول: وحدة الطبقة العاملة: الطبعة العاملة الأردنية لها تاريخ نضالي حافل سواء على صعيد النضال الاقتصادي لتحسين الأجور وظروف المعيشة، أو على صعيد النضال السياسي واشتراكها الفعلي فيه مع بقية طبقات المجتمع. واستشعاراً من الدولة بالخطر الذي تمثله الطبقة العاملة على مصالح أصحاب رؤوس الأموال فقد استعملت نفوذها وحركت أدواتها لسلب الطبقة العاملة من نقاباتها.
الشرط الثاني: حزب الطبقة العاملة: الطبقة العاملة الأردنية أفرزت خلال تاريخها النضالي أحزاباً وقوى يسارية. ولكن نظراً لتعدد هذه القوى، وتبعثرها، يزداد الموقف النضالي تعقيداً وتأزيماً.
الشرط الثالث يتمثل في الجبهة الوطنية الموحدة: شرط أساسي من شروط وعي الطبقة العاملة لذاتها ولرسالتها، هو العمل مع الطبقات الشعبية الأخرى من أجل إحداث عملية التغيير وإقامة حكم وطني ديمقراطي في الأردن.