الشعب يسقط الرئيس.. الجزائر إلى أين؟
تعيش الجزائر منذ ستة أسابيع حركة احتجاجات متصاعدة تطالب بتغيير النظام، واجه من خلالها الرئيس بوتفليقة نداءات بالعودة عن ترشحه لولاية خامسة، ما لبثت الحركة السلمية الكثيفة أن رفعت من سقف مطالبها إلى رحيل الرئيس وكل النظام المتحكم بالسلطة منذ ما يقرب من عقدين.
وعلى خلفية تصاعد المظاهرات الشعبية غير المسبوقة منذ سنين في بلد المليون شهيد، تراجع الرئيس في وقت سابق من الشهر الماضي عن ترشحه لولاية خامسة، وأمر بتأجيل الانتخابات الرئاسية. اعتبرت المعارضة بأن هذا الموقف ليس سوى مناورة، يحاول من خلالها النظام الالتفاف على المطالب الشعبية، كما رفضت حركة الشارع محاولات تهرب الرئيس من محالات إزاحته، فيما بدا واضحا بأن الحراك يحمل بوتفليقة المسؤولية عن حالة البلاد دون الإساءة لشخصه، وإنما يستهدف كل أركان “الدولة العميقة” التي تتشكل من أعضاء للمؤسسة العسكرية الأمنية من الرتب العليا، وبيروقراط حزب جهة التحرير، ونخبة رجال الأعمال المتنفذين.. حلقة تعرف بـ “السلطة”، تصر على إبقاء بوتفليقة على رأس السلطة لحماية امتيازاتهم.
مع إرهاصات ما سمي بالربيع العربي عام 2011، عزا الكثيرون هدوء تجربة الجزائر النسبية إلى مجموعة من العوامل الخاصة في الحالة الجزائرية والمتداخلة بين الوطني والاجتماعي والشخصي، لعب فيها الرئيس دوراً بارزاً.
كان لتجربة عقد ” النار والرماد” الذي شهدته الجزائر في التسعينات، دوراً كبيراً في ذلك، عندما أفضى تمرد أصولي مسلح، قابلته حملة حكومية مضادة، إلى مصرع أكثر من 200 ألف شخص، أوصل البلاد إلى حالة من العزلة وعدم اليقين.
وقد لعب الرئيس الذي وصل إلى السلطة عام 1999 دوراً مشهوداً في تثبيت السلم الاهلي والمصالحة الوطنية، رغم بعض الانتقادات التي وجهت إليه في حينه بدعوى التسامح مع الارهابيين، والتفريط بالوطنيين.
منذ توليه الحكم عمد بوتفليقة المثقف، مدلل النظام، إلى فرض نفسه بما يمتلك من تراث نضالي، وعلاقات متشعبة، على المؤسسة العسكرية التي حملته إلى السلطة بقوة، فخبر تناقضاتها وأمسك بخيوط اللعبة، وقد ولّد انتخابه حماسة جماهيرية في حينه.. كيف لا وهو الرجل الذي أوقف الإرهاب، وسار بالبلاد نحو تنمية في عدة حقول، رغم تواضع نتائجها.
مع الزمن بدأت صورة الرئيس بالتآكل عندما أخذ ينعزل عن الناس ويلتصق بحلقة سلطوية ضيقة ويتعامل مع الآخرين حسب معايير الولاء والخصومة، أفضت إلى إلقاء أعداد كبيرة من المناضلين والوطنيين إلى الطريق، مراهنا على حسن صبر مواطنيه وحرصهم على إدامة السلم الأهلي.
بعد انتهاء ولايتي الرئيس حسب النص الدستوري أضاع الرئيس موعده مع الشعب ومع التاريخ، وتفاقمت أزمة الثقة، بعد تردي حالته الصحية إثر إصابته بجلطة دماغية، أقعدته عن الحركة والتواصل، فغاب عن المشهد بولايته الرابعة بشكل كامل.
تغير مسار البلاد كليا، وأصبح الفساد مفضوحاً وملازماً للطبقة السياسية الحاكمة، وأحاط بمقعد الرئاسة المتحرك عدد من النخب تمثل شرائح مجتمعية مافياوية عسكرية ومالية، نمت كزرع فاسد في ظل حكم فردي منغلق وسيطرت بقوة على مقدرات البلاد وقرارها السياسي الاقتصادي.
أرصدة الجزائر وعوائد ثروتها تبخرت خلال فترة زمنية قصيرة، تم إضعاف المؤسسة العسكرية، وتحول النهب إلى نظام ممنهج له أدواته وحماته، وتعززت عند الناس صورة الرئيس العاجز والمختطف كرهينة بيد “عصابة”، اختزلت تاريخا نضاليا بأكمله، واحتكرت مقدرات شعب بلغ تعداده 41 مليون نسمة، ولم يعد لرئيسهم إرادة، لا في الحكم ولا في ترشحه.
وفي الوقت الذي كانت تنتظر فيه الجماهير انسحاب الرئيس بسبب مرضه وعجزه، أعلن الحكم عن ترشح بوتفليقة لولاية خامسة، فانطلق الحراك الشعبي الواسع ليفاجئ الحكم قبل أن يتمكن من ترتيب أوراقه، وتهيئة الوريث بما يضمن إبقاء البلاد رهينة للنهج السائد.
الأسباب الاعمق التي تكمن خلف الاضطرابات، تعود إلى تكلس النظام السياسي وتردي الأحوال الاقتصادية الاجتماعية وتلوث صورة الجزائر الفخورة، ولم يعد مقنعاً لجيل كامل من الشباب المبطل واليائس، استمرار السلطة رهينة لهذا التحالف الغامض.
يعلن هؤلاء الشباب عن رغبتهم بأن يتولى جيل جديد من الجزائريين زمام الأمور، وعلى النقيض من أسلافهم، لا يشعر هؤلاء بأنهم مدينون بالكثير للحرس القديم لحزب جبهة التحرير الوطني الحاكم، ويسخطون على الفساد المستشري في قمة الهرم في بلد ثري جداً بثرواته الطبيعية ومتعلميه وشبابه الذي يشكل 70% من تعداد السكان.
تواجد مئات الآلاف من المواطنين في الشوارع والساحات أنتج وضعاً بالغ الحساسية، وسلط الضوء على جسامة التحدي الذي تواجهه الحكومة، وسط أجواء ظهرت فيها الطغمة الحاكمة وكأنها تركن بقوة إلى ولاء الجيش ووضع الجزائر الاقتصادي –الجيوسياسي الدقيق، وتحالفاتها الخارجية مع الغرب ومع روسيا.
تدخل الجيش بعد مرور ثلاثة أسابيع على الاحتجاجات؛ فحذر من “النتائج الوخيمة للفوضى، ومن خطر التدخل الخارجي وذكّر بواجباته الدفاعية”، ولكن أمام تصاعد الاحتجاجات وبلوغها درجات خطيرة، وارتفاع سقف المطالب الشعبية وامتداد الاحتجاجات لتشمل اضطرابات في مصفاة النفط الأساسية في البلاد، وسط مناورات السلطة وتسويفها، جدد رئيس الاركان الجزائري قايد صالح البالغ من العمر 79 عاما، ظهوره العلني ودعا إلى عزل الرئيس بتطبيق المادة 102 من الدستور والتي تنص على استحالة قيام الرئيس بممارسة مهامه بسبب المرض الخطير والمزمن.
تصريح لاقى ارتياح شعبي دون أن يؤدي إلى إطفاء حركة الاحتجاج، وسط تشكيك بعض أطراف المعارضة بأن الجيش ينحاز إلى السلطة، وتبع ذلك تصريح لمجموعة الرئاسة قالت فيه بأن الرئيس سيستقيل من منصبه قبل نهاية “عهدته” نهاية نيسان، في حين بدأت أوساط من الحزب الحاكم وبعض الأحزاب المتحالفة في السلطة، تشهد انشقاقات داخلية وتنأى بنفسها عن الرئيس.
وسط سياسة المراوغة الحكومية وغليان الشارع، وضغوط عدد من “الضباط الاحرار” عقد رئيس الأركان، والذي كان يعتبر من الرجال الاوفياء لبوتقليقة، اجتماعا علنيا في مقر وزارة الدفاع، ضم قيادات الجيش واصدر بيانا أعلن فيه انحيازه الكامل للشعب، وندد بما أسماه “الاجتماعات المشبوهة التي تعقد في الخفاء من أجل التآمر على مطالب الشعب وتبني حلولا مزعومة خارج نطاق الدستور، لعرقلة مساعي الجيش ومقترحاته لحل الأزمة”. وحذر من إضاعة الوقت، مؤكداً على شرعية تحرك الجيش، وتمسكه بدوره الدستوري خدمة للدولة الجزائرية، وليس للسلطة أو للاشخاص. مساء نفس اليوم قدم الرئيس البالغ من العمر 82 عاماً استقالته لرئيس المجلس الدستوري قبيل انتهاء ولايته الرئاسية الرابعة، واضعاً حدا لمرحلة شائكة وخطيرة، والذهاب إلى حقبة جديدة يسميها البعض “الجمهورية الثانية”، فخرجت الجماهير بشكل عفوي واسع للاحتفال بما اعتبرته انتصارا بينا على طريق مطالبها المشروعة.
قرار الجيش باقالة الرئيس تبعه جملة من قرارات النيابة العامة، بمنع شخصيات من السفر إلى الخارج، ومنع إقلاع أو هبوط الطائرات الخاصة في مطارات البلاد حتى نهاية الشهر.
السؤال المطروح بقوة الآن: كيف يمكن للجزائريين الذين توحدوا جميعاً خلال حراكهم، أن يحافظوا على وحدتهم لما بعد بوتفليقة؟ متى ستتوضح معالم المشروع البديل، ويعاد تشكيل المشهد السياسي؟
حسب النص الدستوري يتسلم بن صالح رئيس البرلمان السلطة لمرحلة انتقالية تمتد لـ 90 يوما كحد أقصى، وبن صالح البالغ من العمر 77 عاماً لا يحظى بالتوافق أو رضى الشارع باعتباره جزء من النظام .
ما هو دور الجيش الذي بدأ يسيطر على الأمور، ورئيس أركانه والذي غاب حضوره السياسي عن الساحة طوال 15 عاماً، وفشل في دوره برئاسة هذه المؤسسة الوطنية، وساعد في تهميش الجيش أمام السلطة “المدنية”، وإن كانت الأغلبية ما تزال تطالب بدور ضامن للجيش في المرحلة القادمة دون أن يتدخل مباشرة بالعملية السياسية.
كل ذلك وسط تخوفات من أدوار لقوى وأطراف خارجية ترتبط بالجزائر بشبكات مصالح وهواجس متعددة، مع بروز انقسام واضح بين اتجاهين يتنازعان السلطة والشارع وقواه المؤثرة؛ بين من يدفع باتجاه آليات تتجاوز الدستور بنصه الحرفي ويدعو إلى إرساء الديموقراطية والمشاركة الشعبية دون الاستعانة برموز النظام القديم، والذي ترسخت قواعده عبر عقود، وذلك باللجوء إلى المادة السابقة من الدستور والتي تنص على أن الشعب مصدر السلطات، ويمارس سيادته عن طريق المؤسسات التي يختارها. وبين من يدعو إلى الالتزام بالدستور نصا ومضموناً، بدعوى الحفاظ على السلم الأهلي، كون الجزائر متجهة إلى أزمة اقتصادية ضاغطة، وتناقص العملة الصعبة وانعكاس ذلك على التزامات الدولة الخارجية، وواجبها تجاه المواطنين.
وفي كل الحالات، فإن الأمور تتجه نحو تشكيل مجلس انتقالي لفترة يختلفون على أمدها، مع فتح المجال لانتخابات رئاسية تؤسس لحوار وطني وتعديلات دستورية.
حركة الشارع وأغلبيته من المعارضة تسعى لاقامة “الجمهورية الثانية” في الجزائر، تقوم على إبدال الشرعية التاريخية للثورة الجزائرية بشرعية شعبية حاسمة، وفي جميع الحالات فإن التحولات في المسار الديموقراطي الجزائري ستكون لها انعكاسات هامة على الدول الإقليمية والشعوب العربية، لما لهذا البلد من مكانة وجدانية، وأهمية جيوسياسية بالغة، وامتلاكه لمقدرات مادية وبشرية وعمق تاريخي مشرف.